الجمعة، 20 يوليو 2012

الإعلام بين الحرية والمسؤولية الوطنية

الإعلام بين الحرية والمسؤولية الوطنية
      مقدمة
    المال والسلطة... وجهان لعملة واحدة، وحش كاسر يفترس ما ورثناه من قيم نعتز بها، نار حامية تلتهم ما اختزناه من مبادئ تفتخر بنا، فيطمس العقول ويعمي العيون، ويسير بنا حيث يريد حتى بات يهدد الخاص والعام، ويقتحم عرين الإعلام. الإعلام! حيث يشترط أن يكون حرًا نزيهًا، ينتزع الحقائق من براثن الاحداث، فيصوغها جواهر خالصة ينعم المواطن ببريقها، ويسبر الوقائع في أعماق الأغوار، فيسوقها زوارق تعاند التيار، يأنس الفرد بطريقها، ويشيدها منارة تعانق السماء، يهتدي الرأي العام بنورها. كانت القراءة والكتابة زمن الرسول تعتق الأسير من عبوديته، وتحرره لقاء تعليم غيره. أما اليوم وللأسف، باتت القراءة والكتابة – وأخص الإعلام – أسيرة لسلطة المال ومرهونة لسلطة السياسة. فالمحطة الاعلامية هي البوق الاجوف الذي يعلن ما يمليه عليه سيدها، والصحيفة هي الحروف الصماء التي تنشر ما يأمر بها آمرها. وأما الصحافي فقد تناسى شرف مهنته ومسؤوليته الوطنية طمعًا بمال أو خوفًا من إغتيال، ورهن قلمه لمزيفي الحقائق، ومشوهي الكلمات، ومصادري الحريات، وبائعي الشعارات، فحجب الحقيقة عن المواطن، وضلل الرأي العام. وبذلك تربى النشأ على الانصياع والإنقياد والتبعية. فتصورْ المستقبل الذي ينتظر أمة شرب الزيفَ أطفالها حليبًا، وتنفسوا الرياءَ هواءً! فكيف تتحدد مسؤولية الإعلام في تنوير الرأي العام وتوجيهيه؟ وما هي حقوق المواطن في معرفة الحقائق والحصول على معلومات صحيحة؟
     ما هو الإعلام؟
  قبل الغوص في الحديث عن الإعلام الحر، لابد أولا من توضيح معنى الاعلام. فقد اتفق عدد كبير من الاكاديميين والمتخصصين في مجال الإعلام بأنه نشر الاخبار الصحيحة والمعلومات السليمة والدقيقة، بحيث تؤثر في الناس تاثيرًا واعيًا بهدف التنوير، وتعريف الجماهير بالحقائق الثابتة والواجبة لخدمة الحقيقة والمجتمع والافراد، وللمساعدة على تكوين رأي صائب في واقعة من الوقائع او مشكلة من المشكلات، بحيث يعبر فيها تعبيراً موضوعياً بعيدًا عن اضافة اية صبغات شخصية او تعابير موالية لحزب معين. أما حرية الاعلام، والتي يساء استعمالها من قبل الكثيرين اليوم، هي، كما الكل يعلم، بعيدة كل البعد عن التوجّه المتبع حاليا، ولا يمكن أن يتسع مفهومها القانوني والدستوري لهذه الأساليب الملتوية التي تشكل اعتداءً على مهنة الصحافة الشريفة وعلى حقوق الكثيرين من الإعلاميين والصحافيين الشرفاء والأحرار. إن حرية الصحافة، وحقوق المواطن بالاستعلام وبالإطلاع على الصحف ووسائل الإعلام كافة، تؤلّف مبدأً أساسيًا من المبادئ التي تقوم عليها الأنظمة الليبرالية في العالم، وضمانة من الضمانات الأولية لممارسة الديمقراطية، وركيزة من المرتكزات الصلبة التي تُرسى عليها الأنظمة المؤمنة بحق المواطن بإبداء رأيه علنًا، قولًا وكتابة، وبحرية التفكير والمعتقد، في ظل احترام القانون وبسط سيادته على حقوق الجميع.
 الإعلام والسلطة     
 فإذاً، إن الاعلام الحر هو ذاك البعيد عن سيطرة المال أو السياسة، والصحافي الناجح هو الذي يحترم شرف مهنته، ويسهر على خدمة الرأي العام وتنويره. ولكن، وللأسف، إن معظم وسائل الإعلام في الشرق والغرب هي بدون شك وسائل إعلام تابعة كليًا، إلا في حالات نادرة، أي أنها تسير حسب عقائد وأصول وخطط صارمة وقيود قاسية لا تزيح عنها أبدًا، وتتمسك  بها بكل قواها حتى لو بدت ظاهرياً منفتحة. وهذه الوسائل بأبسط تعبير، ما هي إلا خادم مطيع في أيدي القوى التي تمتلكها وتوجهها. أما الإعلام في العالم اليوم، فهو أداة تحكم وتوجيه وتعبئة سياسية، أو بالأحرى جزء لا يتجزأ من اللعبة السياسية والاقتصادية والتجارية، وبالتالي فهو ليس حراً أبداً، بل مجرد تعبير عن موقف سياسي وثقافي وأيديولوجي، أو مصالح اقتصادية وتجارية معينة. فشركة (جنرال الكتريك)، مثلاً، تمتلك قناة (أن بي سي) التليفزيونية الشهيرة. ومعلوم أن تلك الشركة تقوم بالإضافة إلى صنع الأدوات الكهربائية والالكترونية، بتصنيع الصواعق النووية وغيرها من المعدات الحربية، وبالتالي فإن تليفزيون (أن بي سي) لن يتمكن من الحديث عن خطورة الأسلحة النووية، ولا عن ضرورة التخلص منها أوالحد من انتشارها، فهو محكوم بسياسة الشركة المالكة التي تتنوع مصالحها واهتماماتها، وبالتالي فإن القناة التليفزيونية التابعة لها، ليست أكثر من عبد مأمور يخوض فقط في القضايا التي لا تضر الشركة. فأين حرية الاعلام هنا؟


الإعلام الموجه
 ومن جهة اخرى، فإن من حق المواطن ألا يكون ضحية إعلام موجّه أو مأجور، وبأن يتم إعلامه بكل شؤون المجتمع على كافة أنواعها بطريقة صحيحة وصادقة وموضوعية، كي يتمكّن من المساهمة في إحياء المشاريع الاجتماعية، ومن تكوين فكرة واضحة وصحيحة حول المواضيع الوطنية الأساسية المتعلقة بمصير الدولة والمؤسسات الدستورية، وبممارسة الحياة السياسية، وبالأمور الاجتماعية والاقتصادية بشكل حضاري وراقٍ، ومن الاشتراك في عملية تقدم وطنه وازدهاره. وتجدر الإشارة أيضا الى ان معظم وسائل الاعلام اليوم تنقل للجماهير وقائع مشوهة أو مغلوطة أو ملفقة عن سابق تصور وتصميم، حول العديد من الأمور التي من شأنها تضليل الرأي العام أو تأليب فئة ضد فئة. وكذلك، فان الاعلامي اليوم يعتقد أنه فوق القانون، وأنه في موقع القوة والتسلّط إلى حد الاستخفاف بضيوفه أو بالجمهور. وهذا يعد انتهاكا واضحًا وعلنيًا لحق المواطن في معرفة الحقائق والحصول على معلومات صحيحة من اجل المشاركة في الحياة العامة.
     دور الإعلام
  ومن هذا المنطلق، يقتضي أن يكون الدور الذي تقوم به وسائل الإعلام المرئية والمكتوبة والمسموعة دورًا أساسيا في عملية تفعيل الديمقراطية، وتحقيق المساواة والعدالة الاجتماعية، وتشجيع الوفاق الوطني، وخلق مناخ ايجابي لتوطيد السلم الأهلي من خلال تغذية النقاش البنّاء والعلمي والحوار الراقي والموضوعي، ومن خلال عرض كافة الوجهات الفكرية والآراء في المجتمع بكل أمانة ورصانة، بعيدًا عن سياسات التحريض الطائفي والمذهبي، والتضليل الإعلامي، وتلفيق الأخبار التي تمهّد للفتن وتخلق لها الأرضية الصالحة. وهي إذا ما أدت هذه الرسالة المقدسة بكل حرية واستقلالية، فإنها تساهم في رفع شأن الوطن وتطوره، وتعزيز سيادته ووحدته، وفي توجيه المواطن وتثقيفه وتنويره. ولا خلاف على دور الإعلام الذي ينبع من كونه أحد أدوات التوعية والتثقيف والتغيير، وتشكيل الفكر الاجتماعي وترشيده. ولا يخفى ما لوسائل الإعلام من دور بارز ومؤثر في تشكيل الرأي العام وتوجيهه وفي نشر الحقائق وتعميم المعرفة. كما أن للإعلام دوره كسلطة رابعة مدافعة عن حقوق المواطنين، ولها تأثير كبير في المجتمع يعادل، بل يفوق قوة وتأثير الحكومة.
الإعلام ورجال الدين 
     لقد أنزل الله الديانات السماوية على انبيائه ورسله لإعلاء كلمة الحق وجمع شمل الأمة، وأمر بالمعروف والتقوى، والنهي عن المنكر والبغي، وتوحيد الشعوب ضد أعداء الله والدين، ونادى بالمحبة والتسامح والغفران. ولكن أين هذا مما نراه على أرض الواقع؟ فوسائل الإعلام تستغل مطلق حادثة لتزيد الفرقة بين طائفة وأخرى، وتنتهز أية مناسبة لتباعد بين مذهب وآخر من أفراد الطائفة الواحدة، فتشحن النفوس حقدًا وتملأ القلوب قيحًا. وأحيانًا، يكون الحدث ذاته وقودًا مستعرًا لطائفتين متناحرتين أو مذهبين متنافسين، فيجيّر كل منهم التفسير لمصلحته، وهنا يضيع الفرد من المجتمع بين تحاليل مشوهة، أو يقبل بسياسة من يرتضيه اذا كان تابعًا. وأما عن رجال الدين، فحدث ولا حرج! حيث من المفروض أن يعملوا على التوفيق بين الناس وتقصير المسافات بينهم، فنجدهم في خطبهم وعظاتهم ومقابلاتهم الإعلامية يزرعون الدسائس بين الأفراد، ويزكون نار الفتنة بين الطوائف، ويشعلون فتيل الحرب بين المذاهب. فتراهم يفسرون كلام الله حسب ميولهم، ويشرحون الأحداث طبقًا لأهوائهم ارضاءً لأصحاب القرار شرقًا وغربًا ضاربين بمصلحة وطنهم عرض الحائط، لا همَّ لهم سوى السلطة والشهوة والمال. وتكملة لقول جبران "ويلٌ لأمة تلبس مما لا تنسج" أقول "ويلٌ لشعب ينشر إعلامه ما لا يكتب، وينفذ حاكمه ما لا يقرر".
 ألإعلام مسؤولية وطنية    
  وتندرج في قائمة مسؤوليات الإعلام أيضًا، مسؤوليته الوطنية في نشر التعاليم التي تعزز استقلال لبنان، وتؤكد على وحدته وحريته. ويتم هذا النشر عن طريق بث برامج تعبّر عن مكانة لبنان في العالم، فتعرض تاريخه المجيد، وتبين أهم انجازاته، ومعالمه السياحية وأبرز شخصياته رجالا كانوا أم نساء... وإن نشر هذه التعاليم يولد عند المواطن إيمانًا بسيادة الدولة، وبممارسة الديمقراطية التي تؤمّن مساواة الجميع في حقوقهم وواجباتهم، وتحقق العدالة الإجتماعية، لا سيما بين الرجل والمرأة. حيث يجب التخلي عن العقلية القديمة التي لا تؤمن بقدرات المرأة، والبدء بتوفير حقوقها المساوية لحقوق الرجل. والتركيز على الإبداعات العظيمة التي خلفتها العديد من نسائنا الراحلات، والمواهب الخلاقة التي تتمتع بها الكثير من نسائنا الحاضرات. هذا ويتوجب على الإعلام الابتعاد عن المتاجرة بالمرأة وتسويقها سلعة لإدارة الندوات، وتصويرها متعة لإثارة الشهوات. فالمرأة في إعلامنا ما هي إلا جسد ملتهب يبتز المواطن، وملصقات إعلانية تزداد عريًا وعهرًا، ومحطات دعائية تفيض فسقاً وفجورًا. إنها حقا تجارة النساء ولكن بطريقة متطورة. فأين هي المرأة التي تنزع غشاوة العيون وتنهر بنات جنسها بأن يكففن عن بيع أجسادهن، وتضع يدها بيد إعلام موجّه يمحي الصورة المزيفة عن المرأة في عيون أطفالنا، ويحفر مكانها صورة المرأة الأديبة المناضلة ، والعاملة الفاعلة.  
 الإعلام والسلم الأهلي
  كما ان للإعلام المحلي مسؤولية وطنية ذات أهمية قصوى، وهي تعزيز مفاهيم الامن الاجتماعي، وخلق الجو المناسب لترسيخ السلم الاهلي، وذلك عبر برامج هادفة، وتفعيل النقاش البنّاء والتعامل فقط مع الحوارات العلمية والموضوعية التي تصب في مجال توطيد الأمن وتعزيز الامان، كي يشعر المواطن بالطمأنينة والإستقرار. وهذا يتطلب جهودًا جبارة من قبل القائمين على وسائل الاعلام، ويتطلب أفكارًا ابداعية في طرح القضايا، حيث يعرضون كافة الآراء ووجهات النظر بشكل يلفت انتباه المشاهدين، ويؤثر في أشكال السلوك الاجتماعي للمواطنين بطريقة ايجابية. وإذا ما أدى الإعلام هذه الوظيفة بنزاهة متفانية، فهو عندئد يساعد في تنشئة المواطن على المبادئ الخلقية السامية، ويقوم بتقويم الرأي العام، وذلك عبر نشر الوقائع والأحداث بكل أمانة، بعيدًا عن التلفيق والتضليل. وإن هذا من شأنه تعميم الوعي الإجتماعي، وتكوين رأي صائب في أي مشكلة من المشاكل، حيث يلعب فيها الإعلام دور الحكم عن طريق عرض الحدث برصانة متناهية.
    خاتمة
  لعلنا جميعًا نثق بقدراتنا على فعل الشيء الصحيح، واجتناب الفعل الخطأ. ومن هنا فالإعلام الحقيقي ليس أن تقول الشيء الصحيح في الموضع الصحيح وحسب، بل وأن تمتنع عن قول الشيء الخطأ في اللحظة الحرجة. فإذا كان معظم العاملين في الإعلام اليوم حسب ما تقدم، مرهونين لسلطة المال والسياسة، وهذا ما انعكس على أجيالنا الصاعدة بالتبعية، فكفانا " أبو لهب " الساكن في نفوسنا، وكفانا " داحس والغبراء " المزروعتان في عقولنا، وكفانا " البسوس " تفصل قميص عثمان على مقاس كل منا، وآن الأوان أن نتحمل نحن كلنا المسؤولية، ونمسك بزمام الأمور، وندير دفة السفينة في الاتجاه الصحيح، ونتمرد على الربان لنصل إلى بر الأمان. فقد شوت الشمس جلودنا بما فيه الكفاية، وقذفتنا الأمواج إلى ما لا نهاية. وكما يقول الكاتب الأميركي أولفير هولمز: "عندما تتاح للعقل فرص الاطلاع على فكر جديد، فإن من المستحيل لهذا العقل أن يتقلص بعد ذلك أبداً إلى ما كان عليه من قبل". دعونا إذاً نتعلم أفكاراً صحيحة عن الإعلام ونملك جرأة واضحة في التعبير. عندها تولد حقبة جديدة تنظر إلى الأمام وتختفي الأفكار المشدودة إلى الوراء.
إعداد: علي رمضان








ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق