الاثنين، 16 يوليو 2012

مالك بن الرَّيـْب... يرثي نفسه!

مالك بن الرَّيـْب... يرثي نفسه!
          وهذا شاعر آخر انداح في فضاء القصيدة يائسا من البقاء إلا بين قوافيها خالدًا ما خلد الشعر وبلاغاته القاتلة أحيانا، فودع الحياة عبر قصيدة أصيلة اختلف النقّاد والمؤرخون  في عدد أبياتها ومناخ قولها، وتبعاتها في نفس قائلها بعد ذلك، ولكنهم أجمعوا على فرادتها مما رشحها لأن تكون القصيدة الواحدة لشاعرها على الرغم من أنه قال غيرها. فلم يرق كل ما قاله قبلها، وربما بعدها، لمستواها الفني ولا لشهرتها المدوية بين أودية البلاغة العربية ومتلقيها على مدى قرون من الزمن.
          إنه مالك بن الرَّيـْب بن حوط المازني التميمي، الشاعر الذي نشأ في العهد الأموي الأول حديث عهد بالتجديد الذي أضفاه الاسلام على الحياة العربية في كل مناحيها، فتوزعته لجاجاته في تلك الحياة ليكون مفصلا بشريا حائرًا ما بين تقاليد الحياة القديمة، وتعاليم الدين الجديد. ولم يجد بدّا وهو يهوي نحو نهاياته في الحياة من أن يرثي نفسه في تلك القصيدة الفريدة في بابها الصغير في ديوان العرب.
          وفي نهايات الشاعر يمكننا أن نرصد أكثر من حكاية تنوء بتفاصيلها التي لا تصمد أمام صرامة الواقع أحيانا، بل يمكننا أن ننظر إليها باعتبارها من أساطير الأولين المعجبين بسيرة الشاعر الصعلوك وبجماليات القصيدة الفارهة، حيث يتجاهلون منطق الشعر والحياة فينسبون المرثية الجميلة لنفر من الجن الذين راعهم أن يموت شاعر مثل مالك بن الريب وحيدًا غريبًا بائسًا يائسًا فرثوه بمرثية كتبوا أبياتها في صحيفة تركوها تحت وسادته!!
          وعلى الرغم من غرائبية هذه الرواية، فإنه يمكن أن نستخلص منها ذلك الإعجاب الشعبي الكبير الذي حظيت به مرثية مالك بن الريب لنفسه للدرجة التي صار الجميع يتبارى فيها لتبريرها حتى عبر بوابة العوالم اللامرئية. على أن الرواية الأقرب لمنطق عالمنا المرئي تقول إن الشاعر الصعلوك الذي قضى شطرًا من حياته خاضعًا لمنطق جاهلي في ممارسة الحياة اليومية وسيمًا أنيقًا وشجاعًا فتاكًا لا ينام إلا متوشحاً سيفه، قاطعًا للطريق ومتمردًا على أولى الأمر خارجًا على سلطانهم، انتهى به الأمر لأن «يشتري بالضلالة الهدى» وفقًا لمفهومي الضلالة والهدى لديه، فيترك صعلكته نحو المشاركة الفاعلة في الحياة الجديدة وفقًا لاشتراطاتها التي اقتصت من حريته المطلقة وحاولت تشذيبها ووضعها في إطار «إسلامي» محدد. لكنه سرعان ما يشعر بالندم حيال هذا الخيار عندما تقترب منيته، منحازا لفضاء الحرية المطلقة والتي باعها بثمن بخس اقترحه عليه أحد الولاة وهو يعرض عليه أن يستبدل بحياة الصعلكة معاشًا شهريًا يدفعه له أمير المؤمنين!
          ويبدو ان الشاعر الذي جبل على التمرد رأى في المرض الذي ألم به وهو في طريقه نحو سبيل الحياة الجديدة عقابا منطقيا له على ما هو مقدم عليه، فأدرك انها النهاية، وقرر أن يرثي نفسه قبل أن يموت باعتبار انه ميت فعلاً، فبدا في تلك القصيدة العجيبة وكأنه يكتب سيناريو موته كما يتخيله بمشاهد متتابعة، وبرؤية فلسفية متخيلة وإن كانت من خلال واقع متكرر وهو واقع الموت بصفته نتيجة حتمية للكون البشري بشكل عام.
          وفي القصيدة نحن بصدد شاعر في رحلة معتادة مع اثنين من أصدقائه عندما يدهمه هاجس الموت، ولا ندري ان كان المرض هو ما خلق الهاجس لذلك الشاعر أم هي التساؤلات التي لا تنفك تعصف بالتفكير البشري في وحدته غالبا. لكن الشاعر بدلا من التفكير في الموت باعتباره تهديدا يجد نفسه في مشاهده المتتابعة ميتا حقيقيا، وهو الموت الذي يبدو أنه تحقق بالنسبة له منذ أن غير اتجاه بوصلته في يومياته، فيكتب السيناريو الحزين عبر أبيات القصيدة الطويلة بهدوء وروية، وكأنه كاتب سيناريو ومخرج سينمائي في الوقت نفسه لفيلم كئيب ولكنه مشوق جدًا.
          والقصيدة طويلة جدًا، يبدؤها الشاعر بما آل إليه حاله قبل أن يدهمه الموت فجأة وهو بين صاحبيه اللذين يحتاران في كيفية دفنه وإنزاله القبر في صحراء كان الثلاثة يقطعونها على ظهور خيلهم. وعلى الرغم من حرص الشاعر / السيناريست / المخرج على رسم التفاصيل الدقيقة لتلك المهمة الصعبة والمربكة لرفيقيه فإنه لا ينسى أن يعود في لقطات استرجاعية الى الوراء فيصف مشاهد من حياته السابقة للموت في الحرب، حيث شجاعته المشهودة، وبين أهله حيث مهارته في ممارسة الحياة، كل ذلك في لقطات سريعة ومتتابعة للكاميرا لا ينسى أن يمر من خلالها على بعض الوجوه المؤثرة في حياته ربما ليودعها وداعه الأخير.
          وعلى الرغم من أن كتب التاريخ لم تذكر على وجه اليقين سنة ميلاده فإنها تذكر أنه مات في إبان شبابه سنة 65 هـ تاركا وراءه قليلا من الشعر في الوصف والحماسة ومرثيته المشهورة.

تابعونا على الفيس بوك


www.facebook.com/awladuna

إقرأ أيضًا:
إبراهيم طوقان.. شاعر له عينا زرقاء اليمامة
ديكِ الجن.. ديك الشعر الفصيح
مالك بن الرَّيـْب.. يرثي نفسه




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق