الأربعاء، 18 يوليو 2012

العولمة والثقافة


إن مناولة العولمة كظاهـرة ، تقتضي من كل دارس، من كل باحث، عدم التسرع، في إصدار أحكام قطعية، أحكام مسبقة، أحكام قد تكون مفبركة إيديولوجيا .. فليس هناك من جهة ، تستطيع ، أن تدعي ، التنبؤ  بمآل  العولمة، أو شكل تبلور هذه الظاهرة، أو ما تحمل  من مفاجآت .. فالعولمة ظاهرة موضوعية ، ونتيجة منطقية للتطور الرأسمالي ، فالرأسمالية  الراهنة ، كما هي  منذ  فجر تاريخها ،  تنزع   تحو  العالمية ، والاقتصاد الرأسمالي  ذو ميل طبيعي  للتوسع  الجغرافي – كما يرى ماركس – فالعولمة هي بالأساس مشروع اقتصادي رأسمالي ذو بعد دولي، يحاول  أن  يتحكم  في مسارها في الوقت الراهن،  أباطرة المال ، والتكنولوجيا ، والقوى التي تمتلك الاقتصاد والسلاح وبالتالي منطق  السياسة إلى حـد بعيد ...كما تشدد تلك  القوى من  قبضتها لفرض هيمنتها ، وإعادة إنتاج  عوالم على شاكلتها ، من  حيث علاقات الإنتاج ، علاقات التبعية ، لا  من حيث النهضة والتطور . وعلى أثرها تتآكل الحدود القومية ، وتتذلل  العقبات ، والقيود  أمام  تدفق   مختلف السلع ، وانتقال رؤوس الأموال، العولمة  من جانب  آخر ، موضوع  قديم  جديد ، انطلقت  بوتائر  بطيئة ، ثم  تسارعت  مع  الحداثة، فتجلت العولمة كمعادل منطقي وطبيعي  للحداثة  منذ مطلع التسعينيات من القرن الماضي ، وبالترادف مع الثورة العلمية والتكنولوجية،  خصوصا  في مجال الاتصالات، والمعلومات؛ حيث استمدت العولمة منها  الاندفاع  والحيوية .

من المعلوم أنه لولا  هذا  التقدم  التكنولوجي الهائل ، لما كان بوسع  الرأ سمالية ، أن تندفع هذا  الاندفاع الهائج نحو  العالمية ، وقد تمثل هذا  الاندفاع والحيوية ، ببروز  شركات  تتخطى  الحدود القومية، اتسمت بالضخامة ، وتنوع الأنشطة ،والاستئثار  بالكفاءات العلمية.
لقد عرف  أحد  المعاجم  العولمة بأنها  تعني (  إكساب الشيء طابع  العالمية    ومنها جاءت عولمة  الطب ، عولمة الثقافة ، عولمة التكنولوجيا ، عولمة الإنتاج ...الخ.  والعولمة في  بعض  غاياتها – كما ترى – هي حلم  البشرية ، فمن  منا  لا يبتهج لعولمة الطب ، أي جعل  مجال  استخدامه عالميا ، كما أن  غالبية بني البشر تتوق لعالمية  مبادئ ، كالديمقراطية ، وحقوق الإنسان...
 
لقد استخدمنا  مصطلح  العولمة والعالمية  بمعنى متقارب ، مع  ملاحظة  أن  العولمة  تحمل  معنى القسر، معنى إرادة، هيمنة ، ضغط ، فعل خارجي ، وهي  تفترق  عن العالمية ، لأن العالمية  طموح للارتقاء بالخصوصية إلى مستوى  عالمي  بتعبير  محمد عابد الجابري ؛ لكن المحاذير  تبقى ، والقلق  المشروع  يأتي من  أن  العلم،  والتكنولوجيا ، والمال  في  قبضة  الأقوى ، وكل هذه  العناصر لها  سياساتها ، ومصالحها ، وتأثيراتها  علـى  قرارات وسياسات وتوجهات  هذه  الحكومات ، والأقوى  هو الذي  سيفرض  أجندته على  الآخرين.... 

ثم  أن  نشاط  أي  قطاع اقتصادي سياسي  ثقافي  في  مدار  العولمة ، لا بد له في ضوء  المعطيات المذكورة  من أن يترابط ، ويتشابك ، ويتداخل  مع  القطاعات الأخرى ، فانتشار  الثقافة بشكلها الراهن ، غير ممكن بدون  وسائل الاتصالات  الحديثة ، وحركة العمليات  التجارية ، وتسويق المنتجات رهن  بتكنولوجيا  متطورة، كما أن الفصل  بين  الثقافة  والسياسة أمر  غير ممكن ، فلا سياسة  دون ثقافة ، فهما متلازمتان ويتجاور حقلاهما ، والسياسة تغتني بالثقافة ،وتعتمد عليها مهما اختلفت طبيعة  النظم.
وهنا لا  بد من  الإشارة بأن  معطيات جديدة ظهرت بالمقابل ،  فتشكلت  محاور  وأقطاب ، معارضة للعولمة بشكلها الراهن وهي  آخذة بالتنامي  والاتساع ،  دون  أن  ننسى ، من  أن  ثورة المعلومات ألقت  بملايين البشر في دنيا البطالة وهؤلاء  "  لا يمكن  الاستهانة بكلمتهم  " . ولسوف يشكلون جيشا  في وجه  العولمة ، فهل  يمكن – يا ترى - لأصحاب العولمة أن يمرروا كل  ما  في أذهانهم ، بغض  النظر عن  هذه  المعطيات وفي  ظل  تزايد " عولمة معارضة " شاهدنا  زخمها في كبريات مـدن العالم  ؟ .. السؤال يبقى  مطروحا ، والزمن وحده  كفيل بالإجابة ...

أما في الجانب  الثقافي ، في  ظل  العولمة  ،  فالملاحظ  أن  وعي  الفرد ، يزداد بهذا  التواصل والتدامج ، فهو  يتحسس بعالمية   البشر ، ويتحول  تركيزه من  المحلي  إلى  العالمي ، ويدرك  أن  الهوية الثقافية ، لأي شعب  من  الشعوب ، هي  في  المحصلة ، نتاج  تراكم  وإبداعات  فكرية لشتى  الشعوب ، وهي  في  حالة  دائمة  من التطور  والتحول والازدهار ، لأن  الثقافة تغتني  وتزدهر بالتمازج  والتصادم مع  مختلف  الثقافات  الأخرى..

ألم يغتن  الأدب  العربي  بفنون  الرواية  والمسرح   والمذاهب  الأدبية ، بالتواصل  مع آداب  الشعوب  الأخرى  ، وبالتلاقح مع  ما  كان لدينا  من  فنون الأدب  كالمقامات ، والحكايات ،  والسير الشعبية . ألا  يعد سعي الديانات للانتشار من مظاهر  العولمة  الثقافية ، كيف  انتقلت المسيحية إلى أوربا ومولدها  في  فلسطين ؟  وكيف  انطلق الإسلام  من  مكة ويثرب إلى  الهند والصين ؟ ألم  تنتشر   الماركسية كثقافة  في كل  أرجاء  المعمورة ؟ لا  بد للثقافة كما  جاء  في  البيان  الشيوعي ، من أن "  تصبح ملكا  مشتركا لجميع  الأمم ، ويصبح  من  المستحيل  أكثر  فأكثر على  أية  أمة أن  نظل  محصورة في  أفقها الضيق  ومكتفية  به  " .  فمن  روافد  الآداب  القومية ظهر  الأدب العالمي  "  وأصبحت – حسب تعبير ماركس – الإبداعات  الفكرية لأمم  محددة ملكية عامة  " .. فالرأسمالية  تعولم  الثقافة  ، والاشتراكية تأتي  لتكمل  عالميتها يقول  لينين :  "  إن  كل  الحياة  الاقتصادية ، والسياسية ، والروحية  للبشرية ، تبتدئ  بالتدول  خلال   الرأسمالية ، والاشتراكية  تدولها  تماما  "  فالحروب والهجرات  والإرساليات التبشيرية ، والاستشراق ، والتعليم ، كل  هذه  العناصر ساهمت  في خلق  ثقافة عالمية ثم  جاءت  الثورة  العلمية الصناعية  الثالثة ، لتعدم  المسافات  بين  الأمم والشعوب ، فتحول  العالم إلى  قرية ، حيث  سهلت  الثورة  العلمية  بالتالي التواصل ، وسرعت  من  وتائر  العولمة  ، وتأثيراتها فتشابهت  المدن من  حيث  البناء ، والبشر  من حيث  الزي ، وانتشرت في  الشوارع وسائط  النقل من مختلف  التبعيات ، وبودلــت سائر  السلع ....

إننا  لا نستطيع أن نعيش  منغلقين على ذواتنا ، فالانغلاق بدعوى  الخصوصية ، أو الغيرة  الوطنية ، غدا  أمرا  مستحيلا  في  ظل التقانة  الحديثة ،  ويبدو  لي أن  الذين  يتذرعون  بهذا ، غالبا  مـا  يكون  هاجسهم  من  أي تغيير يمس  بنى  حكوماتهم ،  لضعف  هوياتهم ، لا لبربرية  العولمة كما  يزعمون ...

إن ثقافة  العولمة ، تفضي  إلى عالمية  مبادئ ، وقيم ، وتشارك  في  تكوين  سلوكيات  متقاربة  للأفراد ،  حتى أن بعض الخصوصيات ، تنتعش وتزدهر ضمن   التنوع  الثقافي ، وتتكيف  مع  الواقع الجديد ، أو  تتساقط  إذا لم تعد  تجاري  الزمن ،  ولا  حركة  التاريخ  ...

بالمقابل . علينا  ألا  نستهين بمواطننا ،  ونعتبره  عاجزا  متلقيا فحسب  ، فلو أنه  أعطي  حرية الاختيار فسوف يختار  ما يرتاح له  وما يريحه ؛ ألا  ترى أن  مواطني  الخليج بغالبيتهم  يرتدون  الجلباب  الأبيض ، وهذا  مـا يريحهم ،  ثم  من قال أن  كل  ما لدينا حسن ، يجب  المحافظة عليه ،  وما  لدى  الآخرين  سيء  ينبغي  نبـــذه ، أليس  من  الثقافة الجيدة عدم  التمنطق  بالخنجر ، أو  اللثم  بنقاب  كما  عند الطوارق ؟  ...

في  الختام ...  علينا  أن   ندرك  أن  العولمة  لم يخترعها  مفكر  إمبريالي ، حتى  نقف في  وجهه  جميعا  صفا واحدا ..! فهي  كما  قلنا  ظاهرة  طبيعية للرأسمالية ،  ومفهوم  اقتصادي  بالأساس  ، وأصحاب  العولمة يعون  اللعبة، حيث  أن  النوعية  الجيدة ، لأية  ثقافة ، لأية  سلعة , هي التي تفتح طريقها للانتشار والتعميم ، والسعر  المغري   للمستهلك ، هو  الذي   يجذب الزبون ،  وليس أي  إغراء  آخر  أو  وطنية  مزعومة ..

إن  تحصين الوطن والمواطن ، لا يكون، بالانغلاق ، بل  يتطلب مواجهة  الاستحقاقات التي تستلزم قبل أي شيء بناء  إنسان  جديد ، إنسان  حر ، واع ، مقتدر ، موفور  الكرامة ... عندها يستطيع  مثل  هذا  الإنسان  المحصن بهكذا  سلاح  ،  أن يواجه  بثقة  ، ويتفاعل  مختارا وبجدارة ، مع تحديات العولمة ...




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق