الثلاثاء، 11 ديسمبر 2012

• ليلى الأخيلية.. السابقة اللاحقة



          قال الخليفة الأموي عبدالملك بن مروان للشاعرة ليلى الأخيلية: ما رأى منك «توبة» حتى عشقك؟ فقالت له بثقة داهمت شعوره باللهو في تلك اللحظات: رأى فيّ ما رآه الناس منك حتى جعلوك خليفة.

          لابد أن عبدالملك بن مروان ندم ندمًا شديدًا وهو يوجه مثل هذا السؤال اللاهي لشاعرة اعتبرها كثيرون من نقاد عصرها والعصور اللاحقة من أهم شواعر العرب إن لم تكن أهمهن على الإطلاق. فعلى الرغم من أن بعضهم وضعها في مرتبة تلي مرتبة الخنساء الشعرية، فإن الأغلبية منهم قدمتها على الخنساء، ذات الشهرة المدوية في عوالم الشعر الباكي، وهي تنظر  للنتاج الشعري للاثنتين بعيدًا عن اعتبارات التعاطف الإنساني مع  الخنساء، التي فقدت أخويها الاثنين في الجاهلية، وأبناءها الأربعة في الإسلام، وفقا لأشهر الروايات، واقتصرت في  شعرها على الرثاء. أما ليلى الأخيلية فقد نوعت في أغراضها الشعرية بشكل جعل من الظلم مقارنتها بالخنساء ذات الغرض الوحيد تقريبًا، ومن الظلم حصرها في تلك الزاوية النسوية الخاصة في جغرافيا الشعر.
          لقد نجحت ليلى في خلق شخصية شعرية خاصة بها قوامها الأناقة في سبك البيت الشعري، والطرافة في تخير الموضوعات، فكانت حتى هي تتغزل بحبيبها توبة تحاول أن ترسم غير مطروقة من قبل المتغزلين شعرًا من النساء والرجال معًا، فتأتي بمقطوعات ذهبية لامعة في ديوان الشعر العربي  كله.
          وإذا كنا نلاحظ بعض التكرار في قصيدها فإننا نرى أنها لم تخرج عما كان مقبولاً من قبل متذوقي الشعر، وخصوصًا في أغراضه التقليدية على هذا الصعيد. وهو تكرار لا يمس درجة موهبتها التي سبقت بها من سبقها من شاعرات، ولحقت بها من لحقها منهن. ونحن نضعها في تلك المقارنة النسوية لا تقليلاً لشأنها الشعري، كما قد يبدو لأول وهلة لدى البعض، وإنما تقويمًا لها من خلال المعايير التي نظر بها إليها مؤرخو الشعر العربي وهم يقارنونها بشواعر العرب وخصوصا الخنساء.
          وبالرغم من الهدوء الظاهري الذي يميز شعرها العاطفي، فإن الهدوء الذي يشي بالكثير من العواصف المتحينة للوقت المناسب، كي يندلع ثورة عارمة في وجه كل شيء من خلال بيت واحد أحيانًا.
          شاعرتنا هي ليلى بنت عبدالله بن الرحال وسميت الرحالة، وآخر أجدادها كان يعرف بالأخيل وهم ينتسبون الى قبيلة بني عامر التي اشتهرت بعدد من عشاق العرب المشهورين. وليس أكثر من العشق زادًا للشعر لدى الشعراء والشاعرات أيضًا. فما بالك بشاعرة موهوبة في الاثنين؟ أعني في الشعر والعشق معًا؟
          وبالرغم من أن ليلى تعتبر من أهم شاعرات العصر الأموي الحافل بتقلبات السياسة وتصاريفها المفاجئة أحيانًا، مما يغري الشعراء عادة باتخاذ تلك الأحداث مادة لقصائدهم، فإن شعر ليلى خلا من أي أثر لهذه الأحداث التي تعتبر أحداثًا كبيرة، فلم نجدها تنشغل بهذه الأمور الكبرى، والتي انشغل بها كثير من مجايليها من الشعراء. لأسباب ليست واضحة تمامًا لنا، ولا نود أن نرجعها لكونها امرأة، فالنساء في ذلك العصر تحديدًا كن عناصر فاعلة في الصراعات السياسية بشكل عام. على أن ذلك كله لا يمنعنا من رصد بعض القصائد التي يمكننا الإشارة إليها باعتبارها من الشعر السياسي أو على الأقل الشعر الذي تعرض لأحداث سياسية، ولكن بشكل عارض، منها مثلاً رثاؤها للخليفة عثمان بن عفان  الذي استشهد سنة 35هـ.
          ومع أن الكثيرين رأوا في ما قالته على هذا الصعيد مجرد رثاء حار في صحابي جليل، فإننا لا نغفل أن هذا الصحابي الجليل هو أمير المؤمنين، أي أنه رئيس الدولة الإسلامية، وقد توفي مقتولاً في خضم أحداث سياسية طاحنة.
          كما أن انشغال ليلى الأخيلية الأساسي كان في حياتها العاطفية التي اشتهرت، ليس فقط من خلال قصائدها وحسب، بل أيضًا من حكاياتها الطريفة مع حبيبها الشاعر توبة الحميري، والتي اشتهرت بها واشتهر بها هو أيضًا، ولكن هذه القصة ليست كل شيء في حياة ليلى، بالرغم من أنها برزت بجمالها الذي خلّدته قصائد توبة الحميري، وشجاعتها التي مكّنتها من التصدي لأكبر الشخصيات السياسية في عصرها، ومقدرتها على إسكات فحول الشعراء بشاعريتها الواضحة والواثقة.
          بقي أن نشير إلى أن ليلى الأخيلية توفيت في أرجح التواريخ سنة 85 للهجرة عن عمر متقدم كما يبدو، فعلى الرغم من عدم وجود تاريخ محدد لسنة ميلادها فإننا نستشف تقدمها في العمر من خلال قراءتنا لبعض أبياتها التي تشي بذلك. ويبدو أن ليلى قد احتفظت بشعريتها المتوقدة وروحها المتألقة بالفرح والمرح حتى نهايتها، فكتب التاريخ تروي لنا بعض الحكايات على هذا الصعيد، ومنها حكايتها الطريفة عندما مرت على قبر حبيبها الأول توبة مع الزوج الثاني لها، فأصرت على السلام على قبر الحبيب الذي لم تتزوجه فيمن تزوجت، فلما ساد الصمت بعد إلقائها للتحية قالت فيما بين المرح والأسى: ما عرفت له كذبة قط قبل هذا. وعندما سألها الحاضرون عمن قصدها، ردت: أليس هو القائل:
ولو أن ليلى الأخيلية سلمت
                              علـي، ودوني تربـة وصفائح
لسلمت تسليم البشاشة أو صا
                              ح إليها صدى من جانب القبر صائح
          فما باله لم يسلم علي كما قال؟
          ها نحن، مريدو شعرك يا ليلى الأخيلية نرد بالنيابة عن توبة سلامك بعد أكثر من ألف وأربعمائة عام: وعليك السلام يا شاعرة.

تابعونا على الفيس بوك

www.facebook.com/awladuna

إقرأ أيضًا:
إبراهيم طوقان.. شاعر له عينا زرقاء اليمامة
ديكِ الجن.. ديك الشعر الفصيح
مالك بن الرَّيـْب.. يرثي نفسه




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق