الأربعاء، 9 يناير 2013

• مآذن القاهرة... تاريخها وتطورها


مآذن القاهرة: العمارة الإسلامية منذ الفتح الإسلامي حتى نهاية العصر العثماني
          منذ أن أصبحت المآذن عنصرًا معماريًا قائمًا بذاته في عمارة المساجد، أفردت لها الدراسات العديدة التي تعنى بتطورها وطرزها وزخارفها، فالمآذن هي العالم الذي تلتقي فيه العمارة والنحت والزخرفة أروع لقاء. ومدينة القاهرة هي بحق مدينة المآذن، فهي تتفرد بين مدن العالم الإسلامي أجمع بكثرة مآذنها وتعدد أشكالها واختلاف طرزها، مما يكسبها روعة وطابعًا أصيلاً على مر السنين، ويدخل في القلب رهبة وإحساسًا فائضًا وحنينًا إلى الماضي، وكانت مآذن القاهرة دائمًا سجلاً لجميع الأطوار التي مر بها الفن الإسلامي في مصر منذ الفتح الإسلامي حتى العصر العثماني.

          ولعل خير من يأخذنا في رحلة تاريخية بين مآذن مدينة القاهرة، الأستاذة دوريس أبو سيف الخبيرة والعاشقة لعمارة وفنون الإسلام، ومؤلفات وأبحاث أبو سيف متنوعة وغزيرة، وتأتي دائما كأحد المصادر الرئيسية التي لا غنى عنها لدارسي فن العمارة الإسلامية، والأستاذة أبو سيف أستاذة العمارة والفن الإسلامي بمدرسة اللغات الشرقية والأفريقية بجامعة لندن، والجامعة الأمريكية بالقاهرة، وجامعة ميونيخ بألمانيا، ودراستها هذه صادرة عن مركز النشر بالجامعة الأمريكية بالقاهرة في طبعة فاخرة، ومزينة بروائع الصور الفوتوغرافية لمآذن القاهرة.
          تتناول المؤلفة في القسم الأول من الدراسة عدة نقاط، منها: دراسة الأصل اللغوي للمصطلحات المختلفة التي أطلقت على المئذنة والغرض منها، ثم دراسة تطورها من الناحية التاريخية والمعمارية خلال حقب تاريخية مختلفة، وتتضمن دراسة زخارفها وطرق بنائها وتصميمها والنقوش الكتابية عليها، والقسم الثاني من الكتاب عبارة عن دراسة معمارية تفصيلية للمآذن الأثرية الباقية بالقاهرة.
وظيفة واستخدام المئذنة
          ترتبط وظيفة المئذنة في عمارة المساجد بالنداء والإعلام بدخول وقت الصلاة، ويقوم بهذه الوظيفة المؤذن، ولابد أن يكون الأذان بصوت مسموع، حتى يؤدي الغرض الذي شُرع من أجله، كما في الحديث الشريف عند ذكر الأذان "فارفع صوتك بالنداء، فإنه لا يسمع مدى صوت المؤذن جن ولا إنس ولا شيء إلا شهد له يوم القيامة" كما ورد في طبقات ابن سعد أن بلال رضي الله عنه كان يؤذن من فوق أطول بيت حول المسجد، وبعد بناء المسجد النبوي كان يؤذن فوق ظهر المسجد.
          ويشترط في المؤذن أن يكون حسن الصوت، واختلف عدد المؤذنين بكل مسجد عن الآخر، وحسب وثائق العصر المملوكي، فقد وُجد أكثر من مؤذن في المسجد الواحد، وكان للمؤذنين رئيس، فنجد في وثيقة وقف مدرسة السلطان حسن أن للمدرسة ستة عشر مؤذنًا ورئيسًا يتناوبون الأذان، ومدرسة الأمير صرغتمش ثلاثة مؤذنين، ومدرسة السلطان برقوق ستة مؤذنين.
          وتشير المؤلفة هنا إلى أنه قد ورد في المصادر التاريخية والوثائق المختلفة ثلاثة مرادفات لهذا العنصر المعماري، الأول: هو المئذنة وهي مشتقة من الأذان أو الدعوة إلى الصلاة، أو الموضع الذي يلقى منه الأذان، والمصطلح الثاني هو الصومعة وكانت تستخدم في كتابات المؤرخين، وهي مشتقة من الأبراج المربعة للزهاد في سورية، ومازال هذا الاصطلاح هو السائد حتى الآن في مآذن المغرب الإسلامي، حيث الشكل المربع للمآذن لايزال هو الشائع حتى الآن، وهو طراز معظم المآذن الأولى في الشام ومصر والأندلس. أما المعنى الثالث فهو المنارة، وهي مشتقة من الفعل «أنار»، وهي موضع النور أو الإشارات الضوئية لهداية السفن في البحر أو ما يعرف بالفنار، ثم أصبحت هذه الكلمة تطلق على المنائر، ومنه اشتقت الكلمة الإنجليزية Minaret، وقد يؤدي هذا المصطلح لمعنى آخر رمزي وروحي وهو أن المنارة هي مركز النور الذي يرسل الهداية للفرد أو الجماعة.
تطور مآذن القاهرة
          تتطرق المؤلفة في دراستها للنظريات المختلفة لتطور المئذنة المصرية وأصلها المعماري، وقد ثار جدل بين الأثريين حول الأصل المعماري للمئذنة، فمنهم من يرى أن منار الإسكندرية هو النموذج الأول للمآذن، والدلالة على ذلك أن المئذنة تتكون من ثلاث طبقات يتكون منها منار الإسكندرية، وهي طبقة مربعة فطبقة مثمنة ثم مستديرة، ولكن يعارض هذه النظرية العالم الأثري كريسول، وبرهن على صحة رأيه أن أول مئذنة تتكون من هذه الطبقات هي مئذنة خانقاة سلار وسنجر الجاولي في العصر المملوكي 703هـ/1304م، وقد تهدم منار الإسكندرية قبل ذلك بقرن ونصف القرن، فطول الفترة الزمنية بين الاثنين يؤكد أنه لا يعقل أن يكون هناك تأثير لمنار الإسكندرية في نشأة المآذن، ويستنتج كريسول أن فكرة المئذنة الأولى ظهرت في سورية في عصر الخلافة الأموية، باعتبارها مركز الخلافة الأموية، وبالتالي مركز التأثير في فنون ولايات الخلافة، وكان هذا الطراز من المآذن يتكون من بدن مربع يمتد من القاعدة إلى قرب القمة، ونجده في مآذن الجامع الأموي التي أمر بتشييدها الوليد بن عبد الملك، وبقي منها حتى الآن مئذنة المسجد الجنوبية، ثم انتقل هذا الطراز إلى مآذن المغرب والأندلس، فنراه في جامع القيروان، ومئذنة جامع قرطبة.
          وتنتقل المؤلفة إلى ظهور المآذن في مصر، وتذكر أن أول إشارة وردت في المصادر التاريخية عن المآذن عند توسعة مسجد عمرو بن العاص بالفسطاط 53هـ/678 م، فيذكر المقريزي في خططه: أن الخليفة معاوية بن أبي سفيان أمر مسلمة الوالي على مصر أن يبني صوامع للمسجد ليلقى منها الأذان، فبنى مسلمة أربع صوامع في أركانه الأربعة، فكان بذلك أول من شيد المآذن بمساجد مصر، وأنه لم تكن هناك مآذن بمصر قبل مسلمة، وذلك تقليد لمآذن جامع دمشق ولم يرد نص تاريخي لوصف هذه المآذن الأربعة، مما فتح الباب أمام الباحثين للبحث عن شكل هذه المآذن الأولى.
          وفي العصر الطولوني نجد مئذنة الجامع الطولوني متأثرة بمآذن العراق، وهذه المئذنة قد ثار الجدل والأساطير حول تصميمها، وحظيت بنصيب وجدل كبيرين بين علماء الآثار، وهي تلفت النظر بين مآذن القاهرة بشكلها المتفرد، وخلاصة ما انتهوا إليه أنها متأثرة بمئذنة المسجد الجامع في مدينة سامراء، حيث ولد ونشأ أحمد بن طولون، ووجه التشابه نجده في القاعدة المربعة والسلم الحلزوني الذي يلتف حولها من الخارج، إضافة إلى ذلك فإن المئذنتين قد بنيتا خارج الجامع في الزيادة، ومئذنة جامع ابن طولون الحالية عبارة عن أربعة طوابق، الأول مربع وهو قاعدة المئذنة، يعلوها طابق ثان أسطواني، ويأتي فوقهما طابقان مثمنان، تنتهي إلى الجوسق وهو على هيئة مظلة تعلوها قبة صغيرة مضلعة، وقد تمت إعادة بناء المئذنة ثلاث مرات، أولاها وهي المئذنة الأصلية في عهد ابن طولون، والمرة الثانية في العصر الفاطمي وقد تهدم جزء كبير منها في عهد الحاكم بأمر الله، وأخيرا في العصر المملوكي على يد السلطان حسام الدين لاجين، وهو الذي شيّد الطابقين المثمنين، ولكن الجزأين الأسطواني والمربع يرجعان إلى عصر بناء الجامع، وهذا الرأي هو السائد بين أغلب الأثريين.
          ثم بدأت في العصر الفاطمي تظهر الملامح الأولى للمئذنة المصرية، ولم يتبق من المآذن الفاطمية إلا مئذنتا جامع الحاكم 393هـ/1003م، ومئذنة جامع الجيوشي، ومئذنة مسجد أبي الغضنفر، ومئذنتا الجامع الحاكمي تختلفان الآن عن زمن تشييد الجامع، فقمتا المئذنتين من إضافات السلطان المملوكي بيبرس الجاشنكير عند ترميم المسجد، ويتكون الجزء الأصلي من المئذنة الشمالية من قاعدة مربعة وبدن أسطواني، أما المئذنة الجنوبية فتتكون من قاعدة مربعة تنتهي بمثمن، وتعلو المئذنتين قبة على شكل مبخرة. أما مئذنة جامع الجيوشي 472هـ/1085م، فتمثل أهم مرحلة من مراحل تطور المآذن المصرية، وتتكون من قاعدة مربعة, يعلوها طابق مربع آخر، ويقوم على هذا الطابق المربع طابق مثمن، وتتوج المئذنة قبة من الآجر، وهذه هي المرة الأولى التي يستخدم فيها الطابق المثمن في مآذن القاهرة، وهي أقدم المآذن الفاطمية في مصر والتي وصلت إلينا كاملة والتي يطلق عليها «طراز المباخر»، وهي تشبه إلى حد كبير مئذنة مسجد أبي الغضنفر 552هـ/1157م، ولكنها تخلو من الطابق المربع الثاني، ونرى في هذه المآذن القاعدة المربعة هي الظاهرة والغالبة على شكلها العام.
          وصار هذا الطراز من المآذن في العصر الأيوبي، ولم يتبق من هذا العصر سوى مئذنة واحدة وهي مئذنة المدرسة الصالحية شيدها الصالح نجم الدين أيوب 641هـ/1243، وقاعدة مئذنة المشهد الحسيني 634هـ/1237م، ومئذنة المدرسة الصالحية عبارة عن قاعدة مربعة يعلوها طابق مثمن مرتفع كثيرا عن طابق القاعدة المربعة الذي أخذ في التضاؤل، وفي قمة المئذنة قبة مضلعة وهي المبخرة.
          ثم تطور وساد طراز المآذن ذات المباخر في بداية العصر المملوكي، ويتمثل في مئذنة زاوية الهنود 1250م.
          ثم حدث التحول الكبير في المآذن العثمانية وهي لا تتكون من طوابق تتفاوت في شكلها وارتفاعها، ولكن نجد المآذن الأسطوانية المدببة، تعلوها قمة مخروطية تتخذ شكل القلم، وهو النظام العثماني الشائع بإستانبول، وقواعد المآذن العثمانية منخفضة عن مستوى واجهة الجامع، وتتحول هذه القاعدة المربعة إلى البدن أو الطابق المضلع وهو نحيل مثل أغلب المآذن العثمانية، وهذا النوع ظهر لأول مرة في مئذنة جامع سليمان باشا بالقلعة، والمعروف بسارية الجبل 1528م، ومئذنة سنان باشا 1591م، ومئذنة جامع الملكة صفية. وشاع الطراز التركي في مآذن القرن التاسع عشر، وأروعه نجده في مآذن جامع محمد علي بالقلعة 1803م، ولكن يشذ عن هذا الطراز مئذنة مسجد محمد أبو الذهب 1703هـ، فهي تتبع النظام المربع.
موضع المآذن
          تفرد المؤلفة في دراستها مقاطع كبيرة على شكل فصول تتناول فيها عدة نقاط منها موضع المآذن في المساجد، فتذكر أن موضع المآذن الأولى في مسجد عمرو بن العاص كانت في أركانه الأربعة، وهذا الترتيب يتيح للمؤذن أن يسمع صوته من مختلف الاتجاهات، ثم أصبح موضع المئذنة عادة في الجدار المقابل لجدار القبلة أو خارجه، ولكن في الجامع الطولوني نجد المئذنة منفصلة عن المسجد: وتوجد أغلب مآذن العصر الفاطمي فوق المدخل، كما في جامع الجيوشي، والأقمر، وتقع مئذنة الجيوشى في منتصف الواجهة البحرية فوق المدخل، واختيار هذا الموقع للمئذنة يعتبر أسلوبًا جديدًا وشاع بعد ذلك في العصور التالية، ولكن يختلف عن ذلك جامع الحاكم فنرى مئذنتين في ركني المسجد، ويرجع هذا إلى أن جامع الحاكم كان مكانه خارج أسوار القاهرة، قبل بناء بدر الجمالي للسور الحالي.



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق