الأحد، 12 مايو 2013

• طه حسين: فكر الحرية والتمرد

          تعلمنا من طه حسين- فكراً ونقداً وتأريخاً ودرساً أدبياً وسيرة حياة- أن الحرية هي أصل الوجود والطاقة الخلاقة التي ينطوى عليها الإنسان.

  كي يتأبى بها على شروط الضرورة، ويقهر بها العدم، مؤكداً حضوره الفاعل في الوجود، مقاوماً كل ما يحول بينه وتمام الحضور في هذا الكون، من حيث هو كائن فاعل قادر على صنع ما يريد، وما يكمل به معنى حضوره الخلاق الذي يواجه به التاريخ ويصنعه في آن. ولم تكن هذه الدلالة الفلسفية للحرية مكتملة في ذهن طه حسين منذ البداية، لكنه كان يشعر على نحو لا يخلو من الغموض أن عليه مقاومة شروط الضرورة، ابتداء من الفقر وانتهاء بآفة العمى التي جرّها عليه الجهل الذي أناخ بكلكله على البيئة التي عاش فيها وليدا يرى، وصبيا أفضى به العلاج الجهول إلى العمى في عزبة الكيلو بمدينة مغاغة في محافظة المنيا، حيث ولد في الخامس عشر من نوفمبر سنة 1889م، منذ حوالى قرن وربع القرن.
          كان على هذا الفتى الأعمى أن يقاوم الجهل أولاً بحفظ القرآن في القرية التي غادرها ليكون برفقة أخيه، مجاورا في الأزهر، يتعلم علوم الدين التي هي أليق بمن هو مثله من الذين يحيون مستعينين بغيرهم أبد الدهر. وبدأت بذرة الحرية تتوقد داخل الفتى الأزهري الذي كان يجد عسرا في تقبل ما لا يقتنع به. وكان من حسن حظه أن الأزهر الذي دخله في مطالع القرن العشرين كانت به بعض أصداء النزعة العقلانية التي أشاعها الإمام محمد عبده (1849-1905) وكانت هذه النزعة لا تزال قادرة على مخايلة عقول أزهرية شابة، سرعان ما نقلت عدواها إلى الأزهري الصغير طه حسين. ومن يومها تعلم الفتى (الذي كتب سيرته في «الأيام») أن الأسئلة مفاتيح العلم، وأن العقل لابد أن يقوم بتمحيص كل ما يرد عليه، وأن يضع كل ما يلقى عليه موضع المساءلة. والعقل النقدي هو تسمية أخرى للعقل الحر، كما أن العقلانية هي النزعة الملازمة للحرية، تتبادل معها الوضع والمكانة كما تتبادل معها التأثر والتأثير. ولكني مشغول- في هذا المقال بالحرية التي هي البدء والمعاد في فكر طه حسين وحضوره. وقد انبثقت النواة الأولى لهذه الحرية التي عرفها الفتى الأزهري من أصداء ما تركه الإمام محمد عبده في الأزهر، وكان مصطفى عبدالرازق الذي يكبر طه حسين بأربع سنوات تقريباً (1885-1947) هو الذي نقل تأثير محمد عبده إلى الفتى القادم من مغاغة ومعه أخوه علي عبدالرازق (1888- 1966) الذي كان يكبر طه حسين بسنة واحدة. وبقدر ما كان هذان الاثنان سبيل طه حسين إلى الانخراط في تيار الشباب الأزهري الذي تعلم حرية الفكر من الإمام محمد عبده، كان آل عبدالرازق هم رعاة طه حسين الذين ظلوا أقرب إليه، وأكثر حنوا عليه، ورعاية له إلى أن أصبح على ما كان عليه شهرة ومكانة.
بذرة الحرية والتمرد
          وكان لابد أن تقترن بذرة الحرية بالرفض داخل الفتى الأزهري الذي بدأ في التمرد على كل من كان لا يقدر على إقناعه من أساتذته. ولذلك ضاق عليه الأزهر، فخرج منه وعليه، باحثا عن مجال أوسع لممارسة حرية الفكر خارج أسواره إلى الحياة الثقافية الأكثر رحابة، حيث مؤسسات الرأي والفكر المدني. وبدأ يتعرف على أحمد لطفي السيد (1872-1963) رئيس تحرير «الجريدة» الذي استحق ألقاب «أستاذ الجيل» و«أبو الليبرالية المصرية» صاحب مذهب «الحريين» الذي اختاره لتبني المذهب الليبرالي. وقد اختصه عباس محمود العقاد المولود مع طه حسين في عام واحد (1889) بلقب «أفلاطون الأدب العربي الحديث». وفي رحاب أحمد لطفي السيد وجد الفتى القادم من مغاغة ما قارب بينه ومذهب الحريين، فصار واحداً منهم، ينتسب إلى الفكر الليبرالي انتساب العارف الفاهم، ويتصل بكباره الذين عرّفه عليهم أحمد لطفي السيد ليكون واحداً من شباب الليبراليين الذين التقوا في مجلة «الجريدة» التي نشروا فيها مقالاتهم الباكرة، كما فعل طه حسين نفسه. وبقدر ما تتسع دوائر معارف الفتى القادم من مغاغة بدوائر الأفندية الذين أخذ يشاركهم مذهب الحريين، وتتوثق علاقاته بأنشطتهم الثقافية المدنية التي وجد فيها مراحه العقلي، أخذ يضيق به الفكر الجامد لمشايخه بالأزهر بالقدر الذي أخذ فكره الليبرالي الغض يضيق بهم، خصوصاً بعد أن عرف طريقه إلى الجامعة التي افتتحت في ديسمبر 1908، وأصبحت منبعاً جديداً للفكر المدني الذي وصل طه حسين بالأفندية بالعقل قبل أن يكون واحداً منهم بالملبس. وبدأ غضب المشايخ من أساتذته يتزايد عليه. ورغم وساطات أحمد لطفي السيد، فإن الهوة اتسعت، والمسافة بين العقليات تباعدت. وكان لابد أن يحدث الصدام، وأن يتفق كبار المشايخ على حرمان الفتى المتمرد من شهادة العالمية التي أسقطوه في امتحاناتها، كي يجعلوا منه عبرة لغيره من الذين يمكن أن يسيروا على دربه، أو يتمردوا تمرده.
          وهكذا كان على الفتى القادم من مغاغة أن يستبدل بمشايخ أعمدة المسجد الأزهري أفندية مدرجات الجامعة الوليدة، ويسمع من أساتذتها الذين رسخت مكانتهم في المعارف الحديثة ومن المستشرقين الذين علموه الأدب العربي بطريقة لم يكن له بها عهد، مثلما فعل كارلو نالينو أستاذه في الأدب العربي، وديفيد سانتلانا الذي أسمعه ما لم يكن له به عهد في الفلسفة الإسلامية بوجه عام والفقه الإسلامي بوجه خاص، فوجد العقل الحر للفتى القادم من مغاغة مراحه الذي ساعده على الانطلاق والتفوق والنبوغ، ففرغ من علوم الدرجة الجامعية الأولى متفوقا، ودخل مرحلة الدكتوراه التي أنجز فيها أطروحته عن أبي العلاء المعري الشاعر الفيلسوف أو الفيلسوف الشاعر الذي يعد ظاهرة استثنائية في تاريخ الأدب العربي، سواء بفكره الذي لم تقيده القيود، أو بمعرفته اللغوية التي لا تحدها حدود. وكان واضحا أن عوامل عديدة قد قاربت ما بين الشاعر الذي عاش ما بين القرنين الرابع والخامس (363-449) الهجريين، أو العاشر والحادي عشر (973-1057) الميلاديين والفتى الدارس الذي أنهى أطروحته عن أبي العلاء المعري سنة 1914 الميلادية. وما لبثت هذه الأطروحة التي كانت أولى درجات الدكتوراه التي منحتها جامعة عربية أن أثارت عليها بعض أعضاء الجمعية التشريعية ممن اتهمها بالخروج على الشريعة الإسلامية. ولولا تدخل سعد زغلول للدفاع عن حرية الفكر في الجامعة المصرية لكان حدث للأطروحة وصاحبها ما حدث له وللدرجة العالمية في الأزهر. ولكن مر الأمر بسلام نتيجة دفاع سعد زغلول وكيل الجمعية الليبرالي الهوى والأفكار.
خبرات فرنسية
          وقررت الجامعة مكافأة طه حسين بإرساله إلى بعثة في فرنسا للحصول على درجة الدكتوراه. وذهب الفتى الأزهري المتمرد على أزهره العتيق إلى فرنسا. وكان قد تعلم من الفرنسية في القاهرة ما يعينه على تدبير أموره بها في فرنسا. وعلى متن الباخرة التي أقلته إلى جامعة مونبلييه خلع زيه الأزهري واستبدل لبس الأفندية بلبس المشايخ. وعاش طه حسين في رحاب جامعة مونبلييه أشهرا، يستمع إلى محاضرات أساتذتها. ولكن اشتعال الحرب العالمية الأولى أعاده إلى القاهرة بأوامر من الجامعة التي كانت تعاني أزمة مالية. ولكن ما كسبه طه حسين من بعض الخبرة في مونبلييه، خصوصاً بعد أن استمع إلى ما استطاع إليه سبيلا من محاضرات الأدب، جعل له رأيا في تدريس الأدب، دفعه إلى كتابة مقالات قاسية عن تخلف تدريس الأدب العربي في الجامعة، وضرورة تطوير طريقة الدرس المتخلفة، وهو الأمر الذي أغضب القائم بالتدريس، فتقدم بشكوى غاضبة مما رآه إهانة له وتطاولاً عليه. وكاد طه حسين يدفع ثمن حرية نقده غاليا، لكن أنقذه بعض أحرار الفكر الذين كانوا على علاقة طيبة بالسلطان حسين كامل الذي أمر بعودته إلى البعثة، فعاد طه حسين إلى فرنسا، ولكن إلى جامعة باريس هذه المرة، كي يحصل على درجة الدكتوراه من السربون. وهناك درس الاتجاهات العلمية في علم الاجتماع والتاريخ اليوناني والروماني والتاريخ الحديث. وأعد خلال ذلك أطروحة الدكتوراه الثانية عن «الفلسفة الاجتماعية عند ابن خلدون». وكان ذلك في سنة 1918، إضافة إلى إنجازه دبلوم الدراسات العليا في القانون الروماني والنجاح فيه بدرجة الامتياز. وفي تلك الفترة تعرف على سوزان بريسو الفرنسية السويسرية التي ساعدته على الاطلاع أكثر فأكثر بالفرنسية واللاتينية؛ فتمكن من الثقافة الفرنسية التي أصبح كأنه أحد أبنائها، وأحد الذين يتفاعلون مع متغيرات مشاهدها في مرحلة ما قبل الحرب وما بعدها.
          وكان من الطبيعي أن يعاصر أفكار فرديناند برونتيير (1849-1906) الناقد وأميل فاجيه (1847-1916) الأستاذ بالسربون والناقد وجيل لومتير الذي قرأ نقده وكتبه، وأن يعرف كُتاب ما بعد الحرب الذين كان أشهرهم مارسيل بروست (1871-1922) وأندريه جيد المولود 1869، والذي كان إلى جوار بول فاليري المولود 1871 أبرز كتاب فرنسا في ذلك الوقت. ولم يكن من الغريب أن يعرف طه حسين إبداع كل منهم، مضافاً إليه إبداع السابقين واللاحقين، فقد تعلم من جوستاف لانسون (1857-1934) الناقد الذي عاصره وتعلم على يديه أن الحرية في التعبير عن الجمال أصبحت كسباً محققاً، وأن لكل مبدع أن يأخذ لنفسه من كتاب الشعر لبوالو ما يريد، ويحققه حسبما يريد. «أما الجمهور فإنه، إذا كان لا يرضى بكل شيء، فهو لا يرفض كل شيء من حيث المبدأ. وإذا كانت هذه الحرية هي الفوضى فذلك شيء ممكن. لكن الفوضى هنا لا تنطوي على خطورة ما. فالفوضى في الأدب لا تدل على شيء سوى أن المواهب تزدهر بحرية، وأن كل أديب يخلق العمل الفني الذي يحلو له؛ ويضع فيه ما يريد». ولا يتوقف جوستاف لانسون عند هذا الحد، بل يمضي مضيفا بكلمات لا شك أنها تغلغلت في عقل طه حسين واستقرت في قرارة القرار من وعيه، خصوصاً حين يختم لانسون كتابه «تاريخ الأدب الفرنسي» الذي ترجمه محمود قاسم وسهير القلماوي، وكلاهما من تلامذة طه حسين الذي أكاد أتخيله شاباً يافعاً، يستمع إلى ما تقرأه عليه سوزان من الكلمات التي يختم بها لانسون كتابه الضخم قائلا:
          "ليست التقاليد قانونا يجب مراعاته، إذ ليست ثابتة، وسوف تكون ثابتة عندما تصبح الحضارة الفرنسية شيئاً تاريخياً، أي حضارة ميتة. عندئذ يمكن وضع قائمة بالعناصر التي تنطوي عليها، والعناصر التي تستبعدها. لكن طالما بقيت الروح الفرنسية قوية حية، فسوف تنتقل التقاليد من جيل إلى جيل. وهي لا تنفك تتسع، وتتعقد، وتتضخم بالعناصر الجديدة التي ربما أثارت فزع المتمسكين بالآراء المعتدلة البالية، لكن دون أن يستطيع أحد مطلقاً أن يقول للشبان: هذا هو كل شيء، لقد تمت التقاليد الفرنسية، فلن تضيفوا إليها شيئاً بعد اليوم! أو يقف في سبيل مجدد لم يصدر الزمن حكمه في تجديده بعد، لكي يعارضه قائلا: ليس هذا الإنتاج فرنسيا، ولن يكون فرنسيا أبدا، وكما أن فرنسا أعظم من جميع وجهات النظر الحزبية، فإن العبقرية الفرنسية أكثر اتساعا من كل المذاهب الجمالية. ويحق لنا أن نعتقد، بل يجب علينا أن نأمل، أنه ستوجد في فرنسا في أثناء القرن العشرين وفى القرون التالية، روائع من الأدب التي لا نعلم عنها شيئا، والتي سوف تزعزع جميع آرائنا. ومع ذلك، فإنها ستكون روائع من الأدب التي يتعرف فيها أحفادنا، دون جهد، على ملامح فرنسا الخالدة. ولنكن واثقين من ذلك".
ثورة الشيوخ
          أتخيل طه حسين الشاب وهو يستمع إلى هذه الكلمات التي نزلت بردا وسلاما عليه، فازداد إيمانا بما انطوى عليه منذ البداية، وبما سبق أن قاده إلى المشكلات في مصر، حين ضاق شيوخ الأزهر بخطواته في مدى حرية الفكر، وحين لم يحتمل قلة من أساتذته في الجامعة نقده لطريقة تدريسه في الأدب، فثاروا عليه، ساعين إلى إيقاع الأذى به إلى درجة هددت بقطع البعثة عنه، ولولا رحمة السلطان حسين كامل بالشاب الذي رآه كفيفا مجتهدا ما كان أعاده إلى البعثة. ولماذا ننسى ثورة الشيوخ الذين لم يكتفوا بحرمانه من العالمية التي كان يستحقها وحرموه إياها لما رأوه من بدع الفكر العقلاني العار، فكانت البداية التي تكررت في الجمعية التشريعية حين اتهمه من اتهمه بالخروج عن الشريعة لما أملاه في «تجديد ذكرى أبي العلاء». وهاهو طه حسين فيما أتخيله- بعيد عن ذلك كله، يتنسم هواء الحرية في باريس، ويستمع إلى كلمات لانسون عن الحرية التي أصبح يراها ضرورية كالحياة للإبداع حتى ولو انقلبت إلى فوضى، فالفوضى في الأدب لا تدل على شيء إلا على أن المواهب تزدهر كلما وجدت في مناخ أكثر حرية.
          أما التقاليد التي يجعل منها المشايخ قوائم من المحرمات فهي ليست شيئا مقدسا، وإنما هي حراك حيوي، لا تتوقف فيه نسمات الحياة. ومن المؤكد أنه بقدر ما كانت كتابات جوستاف لانسون ودروسه في السربون التي حضرها طه حسين، وحضرها من بعده تلميذه محمد مندور اقتداء به، دعوة إلى الحرية في كل شيء، حتى في اختيار المذهب النقدي، وكانت هذه الحرية أساس المفاضلة ما بين سانت بيف (1804-1869) وهيبوليت تين (1828-1893) وفرديناند برونتيير (1849-1906). وهي نفسها المفاضلة التي جعلت الفكر النقدي لطه حسين أقرب إلى سانت بيف وجول لوميتر (1853-1914) الذي تأثر طه حسين بالنزعة التأثيرية في كتاباته، لكن داخل المجال الذي حدد له ملامحه الأدبية جوستاف لانسون؛ في إطار من الخيار الفردى الحر الذي تتوقف عليه عملية التذوق الأدبي كلها. وهي عملية لا تخلو من التجاوب الحر بين الناقد والنصوص الأدبية، وذلك على نحو فهم منه طه حسين النقد الأدبي- حتى في حالة التطبيق- بوصفه أدبا وصفيا، له ما للأدب الإنشائي من كل خصائص الحرية التي يكون بها الأدب أدبا.
مفهوم الحرية أدبياً
          ولم يقتصر مفهوم الحرية الأدبي على علاقتها بالتقاليد الأدبية فحسب، فقد كانت حرية الأديب هي أحد وجوه حرية الكائن الإنساني، سواء من المنظور السياسي الليبرالي الذي يجعل من الفرد مركز الوجود، والعنصر الفاعل في التاريخ الذي يصنعه الكائن المتميز على عينه، أو المنظور الفلسفي الذي يؤكد حضور الفرد الحر، ابتداء من الكوجيتو الديكارتي (نسبة إلى الفيلسوف ديكارت 1596- 1650) الذي يرد وعي الوجود إلى وعي الفرد الحر الذي يعرف أنه موجود لأنه يفكر. أعني الوجود الحر الذي اقترنت فرديته بقدرته على مساءلة كل الأشياء، والشك حتى في وجودها، بعيدا عن أي وازع أو رادع. ولا أشك في أن طه حسين توقف في قراءة ديكارت ليس على مبدأ الشك الذي جعله قرين المعرفة الصحيحة فحسب، بل جاوز ذلك إلى أقوال لديكارت، صارت من قبيل المبادئ الراسخة في وعيه، يلمح أصداءها كل من يقرأ كتاباته بعد عودته من فرنسا. أعني أقوالا تبدأ بالمبدأ: أنا أفكر إذن أنا موجود. وتضم غيره مثل: الشك هو أصل الحكم، لا شيء يأتي من لا شيء، ولا شيء يأتى من العدم، ولا يكفي أن يكون لك عقل جيد، المهم هو أن تستخدمه بشكل حسن. أعظم العقول قادرة على أكبر قدر من الرذائل، وكذلك أكبر قدر من الفضائل. كلما أساء إلىّ أحد حاولت أن أرفع روحي إلى الأعلى لكي لا تصلها الإساءة.
          ومع أن مناخ الحرية في تعدد مجالاتها الذي عاشه طه حسين في فرنسا قد رفع روحه عاليا، وانقلب بحياته من حال إلى حال، كما لو كان قد أخرجه من ظلمة الجهل إلى كل أنوار المعرفة. لكن كان عليه، فيما يبدو، وبعد أن عاد إلى القاهرة أن يضع حكمة ديكارت الأخيرة نصب وعيه، خصوصاً أنه لم يتوقف عن ممارسة فعل حرية التفكير في مجال الدرس الأدبي والتاريخي، وهو الأمر الذي جلب عليه من الهجوم ما كان يستدعي معاودة تذكر كلمات ديكارت الحكيمة: «كلما أساء إليّ أحد حاولت أن أرفع روحي إلى الأعلى لكي لا تصلها الإساءة». وما أكثر المعارك التي خاضها فكر طه حسين الحر! وما أكثر الإساءات التي انهالت عليه من خصوم هذا الفكر الحر الذين كان ينتصر عليهم في النهاية؛ لأنه كان يرى أبعد ما يرون مع أنه الأعمى، وهم المبصرون. وليس في الأمر استحالة وإنما سخرية، فنور البصيرة أعظم وأبعد مدى من نور الباصرة.




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق