الأحد، 11 أغسطس 2013

• مسلسل سنعود بعد قليل: الرمز والواقع بين النقد والتحليل


لابد أن تغير الحروب من المزاج الفني للمجتمع وتجعله يطالب بالمزيد ولا بد لها من أن تلهم الكتاب والمثقفين لإنتاج أعمال تلامس الوجع وتحاول تناول المشهد الذي يدور في البلاد ببعده الإنساني والوجداني والفني والرمزي دون الانفصام عن الواقع.

 ولعل مسلسل "سنعود بعد قليل" لكاتبه رافي وهبة ومخرجه الليث حجو أحد الأعمال الهامة التي تواكب الحدث السوري وتفسح المجال أمام الجمهور على اختلاف شرائحه الثقافية والاجتماعية والعمرية ليكون مستهدفاً من رسائل هذا المسلسل.
فما ان انقضت بضع حلقات من عمر المسلسل حتى بدأت معالم رمزية شخصية نجيب أبو سامي.. دريد لحام وأبنائه الستة تتضح بخط متوازٍ ذي صعود وهبوط دائم ما بين الواقعية في طرح تفاصيل الحياة اليومية والتطور الدرامي للأحداث وبين الرمزية في إسقاط عناصر المسلسل على المشهد السوري الراهن بشرائحه الاجتماعية الفاعلة منها والمتفاعلة مع الأحداث الجارية من سياسيين وإعلاميين ومثقفين وتجار.
وبالغوص في بعض حيثيات العمل وشخصياته يبدو أبو سامي حرفي الفسيفساء كخيط السبحة الذي يربط بين شخصيات واقعية ظاهرياً وقد اتسع صدره المريض سعة الوطن وهو ما يبرر سيل الوعظ اللطيف تارة وثقل الظل طوراً ويجعل تغنيه بالماضي الجميل من خلال الاحتفاظ بصور لأسرته على طول رحلته في البحث عن شتاتها بلبنان أمراً غير عبثي.
أما على صعيد الأبناء فهناك سامي.. عابد فهد رجل السياسة الوصولي الذي تزوج من ابنة زعيم لبناني وأهمل أسرته لاهثاً وراء طموحاته الحزبية إلى أن بلغ معضلته الأخلاقية وهي المساومة على مصلحة الوطن.. الابن الثاني فؤاد.. قصي خولي التاجر الحذق الذي يجعله طمعه مستعداً لعقد صفقة مع الشيطان حتى يبلغ مبتغاه وهو من قامر بوالده كي يفلت من الموت كما أنه باع حقائق ووثائق متعلقة بوطنه الأم كي ينجو من الموت مجدداً.
الصحفي كريم.. باسل خياط استخدم جسده معبراً للوصول إلى المجد الإعلامي إن صح التعبير فهل يتوانى عن ممارسة العهر المهني وإحدى المفارقات هي أن كريم وعشيقته التي تجسدها الفنانة كارمن لبس كانا يتحدثان عن دور الإعلام في المشهد العربي وللمشاهد أن يتخيل مدى نزاهة هذا القطاع ونظافة يديه من دماء مئات الآلاف في العالم العربي.
وبالانتقال إلى راجي.. رافي وهبة فهو فنان تشكيلي من المفترض أن يمثل ضمير المجتمع لكنه متخبط ومضطرب حاله حال المجتمع كما أنه ضحية بصورة أو بأخرى للوقائع الدائرة على الأرض فيعمد في نهاية المطاف إلى اختيار السراب لاهثاً خلف مريم.. دانة مارديني للتخلص من عقدة الذنب التي رافقته منذ أن غادر البلاد مخالفاً بذلك نصيحة الأب التي كانت تأتي دوماً في مكانها الصحيح خلال زياراته المتتالية لأبنائه بالتناغم مع الدور الرمزي الذي يشغله.
وعلى الرغم من مرور شخصيات العمل بتجارب وضعتهم في ورطات أخلاقية كانت تشهد ذروتها مع زيارة أبو سامي لكل منهم نجد أن الشخصيات الأربعة السابقة لم تشهد تحولاً وبقيت على ما كانت عليه منذ البداية رغم أن الحلول والفرص لطالما كانت قائمة ولاسيما بالتزامن مع ظهور الأب في حين أن شخصيتي دينا وميرا الأقل أهمية ظاهرياً والأعقد فعليا، اتخذتا قرارات جعلتهما أكثر نضجاً من الناحية الدرامية، فالأولى كانت حائرة في علاقتها مع زوجها لكنها وبعد افتضاح أمر عشيقها قررت معالجة المسألة بعيداً عن التبرير بالانفصال إلى أن اضطرت في النهاية إلى إطلاع زوجها عصام على حقيقة مرض حبيبها العاجز جنسياً متخذة القرار بالابتعاد عن كلا الرجلين في رسالة هامة يطرحها الكاتب إلى المجتمع الشرقي الذي استهدفه لمعالجة مفاهيم أساسية كالتأكيد على أن الأخلاق تكمن في القيم لا في الجسد وذلك عندما سامح الزوج زوجته بعد أن أحبت رجلاً آخر.
أما شخصية ميرا الابنة الصغرى التي اختتم الأب معها رحلته والتي زادت أزمتها من ثقل خطاه وأدت إلى انهياره استطاعت أن تغير نهجها بالحياة بعد أن تعرفت على يوسف طالب المعهد السينمائي وهو شخصية مثالية توازي برمزيتها دور الأب/الوطن بخطاها العازمة نحو الموت عبر قضية كرس نفسه لها وهي الحصول على وثائق وحقائق تفضح الوجه الوحشي لما يجري في سورية حيث تخلت ميرا بعد وقوعها بالحب عن علاقاتها الجسدية السابقة بعد أن استطاع يوسف أن يغير نظرتها للحياة والحب معاً.
ومع آخر مشهد ليوسف كان بمقدور العمل أن يسدل الستار بنهاية افتراضية تكاد تكون أقوى من المشهد الأخير حتى فعلى وقع كلماته عن فيلم رصاصة القناص يدخلنا الكاتب في مناخ نفسي محموم يلامس أوجاعنا وآلامنا حيث ينتهي المشهد بمعاهدة يوسف لميرا على الحب ملبساً إياها الصليب الذي كان بعنقه على أنغام ترنيمة السيدة فيروز يا مريم البكر ومن ثم الانتقال إلى أبو سامي وهو دامع العينين يبكي وجع بلاده في الكنيسة ويشكل هذا المشهد إلى جانب مشهد اكتشاف عصام لعجز حبيب زوجته جنسياً إضافة إلى ما ورد في المقدمة الإخبارية التي قدمها كريم عما يسمى "الربيع العربي" الذي لن يؤتى أكله ما لم يتخل المجتمع الشرقي عن ثقافة الثأر ويتعلم كيف يدير الخد الأيسر.
وتبلغ الرمزية أقصاها في الحلقة الأخيرة عندما يجتمع الأبناء لأول مرة منذ بداية العمل في المستشفى حول جسد والدهم الذي نهشه السرطان وسط تناحر وتضارب بالآراء حول ما إن كان التقسيم أو الاستئصال أو المكابرة هو الحل لإنقاذ الرجل فأي من الأبناء صادق بنواياه في قرار إجراء عملية الاستئصال وهل ينطلق فؤاد برفضه للجراحة من حرصه على حياة والده أم أن ماضيه البراغماتي وسعيه الحثيث منذ بداية العمل لبيع منزل العائلة مبرر كاف لجعلنا نشكك بصفاء سريرته سؤال يستحق التعميم والتوسع بطرحه ليشمل المشهد السوري ككل.
أخيرا يستعيد أبو سامي الذي يعيد إلى ذاكرتنا تراجيديا الملك لير الوعي وقد ذهب أولاده كل خلف مصالحه الضيقة وهنا يتعمد الكاتب استخدام الأسلوب الميلودرامي خلال الحديث الأخير لأبي سامي دائم الكذب على الذات والذي يفشل في تجميل الواقع ويفقد الرغبة بالحياة حيث يبلغ ذروة التحول بشخصيته عندما يرى قبح التزييف الإعلامي فيصدق للمرة الأولى مع ذاته صارخاً /كذب/ فينال الخلاص من خطاياه رمزياً فيفضل لاحقاً الاستماع إلى فيروز تغني أمجاد دمشق.
يفارق الرجل ذو الثمانين عاماً الحياة ويطل ملاك الموت وقد انتهت من صنع الشال الذي كانت منهمكة بحياكته خلال مشاهد متفرقة من العمل ليدور حوار غير متوقع معها إذ يسألها عن أمور حسابية وسعر صرف الليرة أمام الدولار في إشارة إلى مسارعة أبنائه إلى تقييمه وفقاً لأسعار العملات ومن ثم يتلاشى طيف أبو سامي ويفيض في حارات دمشق القديمة على وقع أنباء عن غارات إسرائيلية على ضواح في العاصمة السورية بنقلة حادة في المشهد من قمة الرمزية إلى الواقعية الصادمة علها تترك أثراً في وجدان أي ناطق باللغة العربية تدين له سورية بذكرى أو قصيدة أو رمز تلفزيوني أحبه أو حبة تراب.
ما بين الواقعية الظاهرية والرمزية المبطنة تمكن العمل من استقطاب كافة شرائح المجتمع بمثقفيه وعامته في بداية الأمر ولكن مع تثاقل إيقاعة النخبوي خلال حلقات الربع الأخير يبدو أن الكاتب اضطر إلى كشف البعد الرمزي في المشاهد الأخيرة عن طريق المقارنات والمفارقات وبعض المباشرة وكأنه تعمد عدم حرمان كافة المشاهدين من بلوغ الرسالة التي أراد إيصالها وإن كان ثمن ذلك هو التضحية بشيء من الجمالية لصالح رسالة حجمها يفوق بكثير ترف متعة الكشف.
تابعونا على الفيس بوك

 

إقرأ أيضًا

 مسلسل العرّاف: نقد وتحليل ومراجعة

مسلسل لعبة الموت: نقد وتحليل ومراجعة.. ناجح لولا الحلقة الأخيرة

مسلسل عمر انتهى!... تقييم عام ونقذ لاذع

دور خالد بن الوليد في مسلسل عمر للفنان مهيار خضور

مسلسل عمر بن الخطاب..... سقوط وفشل

مسلسل عمر بن الخطاب.... نقد وتحليل

مسلسل العراف أساء للشعب الفلسطيني






ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق