السبت، 16 نوفمبر 2013

• القرصنة الإلكترونية.. تغيير جديد لخارطة القوة في العالم!


لعبت الثقافة الافتراضية والقرصنة والتجسس دورًا كبيرًا في توتر العلاقات بشكل غير مسبوق بين الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا. كان ذلك تحديدًا في 11 أغسطس 2013

حين أعلن البيت الأبيض عن إلغاء قمة مفترضة بين الرئيس الأمريكي باراك أوباما ونظيره الروسي، وهو اليوم الذي شهد قبول روسيا طلب اللجوء السياسي الذي تقدم به إدوارد سنودين، خبير المعلومات الأمريكي، والموظف السابق والعميل في وكالة الاستخبارات الأمريكية، والذي كان قد ظل معلقًا في مطار العاصمة الروسية لعدة أيام على أمل قبول طلبه للجوء السياسي.
أما الاتهام الذي وجهته الولايات المتحدة إلى سنودين، في 21 يونيو 2013، واضطر بسببه لبدء رحلة البحث عن ملجأ آمن خارج وطنه فقد تمثل في: التجسس وسرقة ممتلكات حكومية ونقل معلومات تتعلق بالدفاع الوطني دون إذن، والنقل المتعمد لمعلومات مخابرات سرية لشخص غير مسموح له بالاطلاع عليها.
وجاء الاتهام بناء على قيام سنودين، في أثناء عمله مع وكالة الأمن القومي، بتسريب مواد مصنفة على أنها سرية للغاية، منها برنامج بريسم إلى صحيفة الغارديان وصحيفة الواشنطن بوست.
أما برنامج «بريسم» PRISM فهو برنامج تجسس رقمي مصنف بأنه سري للغاية يُشّغل من قبل وكالة الأمن القومي الأمريكية. وهو، وفقا للمستندات التي سربها سنودين، برنامج يتيح مراقبة معمقة للاتصالات الحية والمعلومات المخزنة، ويمكّن من استهداف أي عميل لشركة منخرطة في برنامج بريسم، في حال كان هذا العميل يسكن خارج الولايات المتحدة، أو كان مواطنًا أمريكيًا له اتصالات تتضمن محتويات وخصوصا من له اتصالات بأشخاص خارج الولايات المتحدة.
وبالنسبة للبيانات التي يقال إن بريسم يمكِّن من الحصول عليها فتتضمن، رسائل البريد الإلكتروني، ومحادثات الفيديو والصوت، والصور، والاتصالات الصوتية ببرتوكول الإنترنت، وعمليات نقل الملفات، وإخطارات الولوج وتفاصيل الشبكات الاجتماعية.
الجدير بالذكر أن الرئيس الأمريكي أوباما أعلن في مؤتمر صحفي عشية إعلان إلغاء القمة الروسية الأمريكية عن نيته، في نفس الوقت، إعادة النظر في القوانين الخاصة بمكافحة الإرهاب، في إشارة ضمنية للرد على محتويات برنامج بريسم؛ الذي يبدو جليا أنه يمكن الأمن القومي الأمريكي من اختراق خصوصية الكثير من المواطنين الأمريكيين.
كانت هذه هي إحدى أبرز الأحداث التي تلعب فيها شبكة الإنترنت دورا كبيرا من حيث قيام عميل في المخابرات الأمريكية بتسريب معلومات عن برنامج استخباراتي سري.
من سنودين إلى أسانج
كان قد سبق هذه الواقعة المشهودة، الحدث الذي شهد اهتماما كبيرا من أرجاء العالم، وتحديدا في إبريل 2010، حين قامت ويكيليكس (وهي منظمة دولية غير ربحية تنشر تقارير وسائل الإعلام الخاصة والسرية من مصادر صحفية وتسريبات إخبارية مجهولة. بدأ موقعها على الإنترنت سنة 2006 تحت مسمى منظمة «سن شاين» الصحفية) بنشر مشهد فيديو عن ضربة الطائرة في 2007 التي قتلت فيها قوات أمريكية مجموعة من المدنيين العراقيين والصحفيين، ونشرت ويكيليكس هذا الفيديو على موقع إنترنت يسمى Collateral Murder.
وفي يوليو من العام نفسه سربت ويكيليكس يوميات الحرب الأفغانية، وهي مجموعة مستندية لأكثر من 76900 وثيقة حول الحرب في أفغانستان لم تكن متاحة للمراجعة العامة من قبل. ثم سربت في أكتوبر 2010 مجموعة مكونة من 400000 وثيقة؛ فيما يسمى بسجلات حرب العراق بالتنسيق مع المؤسسات الإعلامية التجارية الكبرى، حيث سمحت تلك الوثائق بإعطاء فكرة عن كل وفاة داخل العراق وعلى الحدود مع إيران. وفي نوفمبر 2010 بدأت ويكيليكس بالإفراج عن برقيات الدبلوماسية للخارجية الأمريكية.
أدى ذلك بطبيعة الحال الى استهداف شخصية مؤسس ويكيليكس، خبير تقنية المعلومات والإنترنت الأسترالي ويليام أسانج. ولم يكن منشئو ويكيليكس معروفين رسميا، باستثناء أسانج. فقد أظهر جوليان أسانج هذه الهيئة المختصة بتسريب معلومات عبر الإنترنت، ومن معه إلى العلن بداية من يناير 2007. ووصف أسانج نفسه بأنه عضو في مجلس ويكيليكس الاستشاري وإن قالت تقارير إخبارية في أستراليا بأنه مؤسس ويكيليكس. ووفقا لمجلة «وايرد» فإن أحد المتطوعين قال إن أسانج قد وصف نفسه في جلسة خاصة بأنه «قلب وروح هذه المنظمة فهو المؤسس والفيلسوف والناطق الرسمي والمبرمج الأصلي والمنظم».
وصرحت الويكيليكس بأن «مهمتها الأساسية فضح الأنظمة القمعية في آسيا والكتلة السوفييتية السابقة، ودول جنوب الصحراء والشرق الأوسط، لكن نتوقع أيضا أن تكون هناك مساعدة لأناس حول العالم ممن يرغبون في الكشف عن سلوكيات غير أخلاقية في الحكومات والشركات».
وأدى هذا الحدث الذي نشرت بمقتضاه تفاصيل العديد من البرقيات بين الخارجية الأمريكية والسفراء الأمريكيين في العالم إلى العديد من الفضائح السياسية في أرجاء العالم، طرفها الرئيسي هو الدبلوماسية الأمريكية، أما الأطراف الأخرى فهي دول من المنطقة العربية وآسيا وأوربا، وهو ما أثار الجدل مرة أخرى حول تفسير ما قام به أسانج، ومدى كونه يخضع لمفاهيم حرية التعبير، أم أنه يتجاوز القوانين التي تقضي بسرية الوثائق الدبلوماسية والأمنية.
حرية الصحافة أم الأمن القومي؟
لكن أسانج اغتنم فرصة ظهوره في إحدى المقابلات التلفزيونية ليشرح مفهومه لحدود الحرية بالقول إنها ليست الحرية المطلقة بالتأكيد، وأنها تعني ماتقرره الحكومة وينظمه القانون، لكن وثيقة الحقوق في دستور الولايات المتحدة تقول إن الكونغرس لم يسن أي قانون يحد من حرية الصحافة، وحرية الصحافة تعني أنها تسمو فوق القانون لأنها في الحقيقة هي التي تصنع القوانين، فأي دستور أو أي جزء من القانون يستمد وجوده من حرية تدفق المعلومات.
وفي سبيل الدفاع عن منطق أسانج علق الكثير من المعلقين بالقول إن الجرم لا يتحمله أسانج الذي نشر معلومات أتيحت له، لكن المجرم الحقيقي هو من قام بتسريب هذه الوثائق من وزارة الخارجية أو من أي جهة أخرى.
وبعيدا عن التفاصيل، يمكننا هنا أن نرى في نموذجين مختلفين من عملية تسريب المعلومات كيف أن الشبكة الدولية للمعلومات تقوم بغربلة بعض المفاهيم المستقرة، وبشكل حاد وصارم. ففي حالة العميل إدوارد سنودين نجد أنه رأى في الإدارة الأمريكية في عهد بوش اختراقا لمفاهيم الديمقراطية التي تضمن الحرية الشخصية لأفراد المجتمع، وحين جاء أوباما كان قد تفاءل باعتبار أن أوباما سوف يقوم بتصحيح هذه الأوضاع، وهو ما شرحه في مواضع ونشرتها وسائل إعلامية مختلفة، لكنه حين رأى أن أوباما يسير على نهج سلفه قرر أن يقوم بتسريب البرنامج السري الذي يخترق الحريات الشخصية للمواطنين للصحافة الأمريكية.
أي أن الجريمة التي تراها الإدارة الأمريكية اختراقا لسرية معلومات الأمن القومي، هي من وجهة نظر سنودين مجرد وسيلة لفضح اللاشفافية والمخالفة الدستورية لجوهر الديمقراطية الأمريكية التي يضرب بها العالم المثل.
وتقريبا هو نفس الهدف الذي يصل إليه أسانج عبر تسريب الوثائق السرية التي يثبت بها كيف تتدخل الولايات المتحدة في شئون العالم، وكيف تدير مشروعها للهيمنة على الدول الصغيرة في العالم النامي، وفي علاقاتها حتى مع الدول الغربية. بينما تتدخل في كل كبيرة وصغيرة في ارجاء العالم بدعوى الدفاع إما عن حقوق الإنسان أو عن الديمقراطية.
لكن أسانج أيضا أوضح أن جزءا من هدف ويكيليكس، إن لم يكن هدفها الرئيسي هو ضمان منع تعرض الصحفيين للسجن عند قيامهم بتسريب معلومات أو وثائق.
وهدف المنظمة المحدد هو ضمان عدم سجن المخبرين والصحفيين لإرسالهم وثائق حساسة أو سرية عبر البريد الإلكتروني، كما حدث للصحفي الصيني شي تاو، الذي حكم عليه بالسجن 10 أعوام سنة 2005 بعد نشر رسالة بالبريد الإلكتروني من مسئولين صينيين حول ذكرى مجزرة ساحة تيانانمن.
العقل والضمير في مواجهة الأخلاق
إن هذه القضية في الحقيقة تفتح الباب واسعا أمام فكرة أن التجسس هنا لم يعد مجرد عمليات تمس الأمن القومي في دولة أو أكثر، بل هو يمارس من قبل أفراد مستقلين لفضح ممارسات دولة أو اخرى تتعارض مع المواثيق الدولية المعلنة، أي أنه صراع الضمير والعقلانية ضد أخلاقيات دول ترفع الشعار الأخلاقي علنا وتمارس ضده سرا.
لكن ما تثيره هذه الظاهرة أيضاً أن العلاقات الدولية في ظل ظاهرة التجسس السيبرنطيقي، أو التجسس الافتراضي، أي عبر استخدام الوسائط الإلكترونية، يمكن أن يأخذ هذه الدول إلى مستوى مختلف من العلاقات، والتوتر بين روسيا والولايات المتحدة دليل ماثل أمامنا اليوم، ولكن قبل ذلك لا يمكن أن ننسى أنه طالما كان هناك اليوم أفراد قادرون على فك الشفرات واختراق المواقع فما الذي يمنع إذن أن تصل الصين إلى بعض الأسرار التقنية العسكرية في الولايات المتحدة مثلا؟
ثم هل يمكن أن تكون نتائج مثل هذه القرصنات وعمليات التجسس الإلكترونية المتبادلة مؤثرة في تغيير صورة دولة ما؟ او الإخلال بهيبتها؟ إنها أسئلة مهمة لكن إجابتها لا تزال اليوم تتراكم في الخفاء.
تفتح هذه القضايا الباب واسعا لتأمل كيف تطورت فكرة التجسس أو القرصنة على الإنترنت من مجرد كونها عمليات استيلاء على مواقع إلكترونية إما للاستفادة من المعلومات التي تحتويها، أو حتى لتشغيلها لصالح القراصنة إلى أن تصبح لها أهداف ذات طبيعة أخلاقية، وهو ما ينبغي لأجله أن نتتبع مفهوم وتاريخ فكرة القرصنة على شبكة الإنترنت.
والمعروف اليوم أن القرصان الافتراضي أو الـ(هاكر) Hacker هو المختص المتمكن من مهارات في مجال الحاسوب وأمن المعلوماتية. واطلقت كلمة هاكر أساسا على مجموعة من المبرمجين الأذكياء الذين كانوا يتحدون الأنظمة المختلفة ويحاولون اقتحامها، وليس بالضرورة أن تكون في نيتهم ارتكاب جريمة أو حتى جنحة، ولكن نجاحهم في الاختراق يعتبر نجاحا لقدراتهم ومهاراتهم. إلا أن القانون اعتبرهم دخلاء تمكنوا من دخول مكان افتراضي يجب ألا يكونوا فيه. والقيام بهذا عملية اختيارية يمتحن فيها المبرمج قدراته دون أن يعرف باسمه الحقيقي أو أن يعلن عن نفسه. ولكن بعضهم استغلها بصورة إجرامية تخريبية لمسح المعلومات والبعض الآخر استغلها تجاريا لأغراض التجسس والبعض لسرقة الأموال.
هنا وجدت الكثير من الشركات مثل مايكروسوفت ضرورة حماية أنظمتها ووجدت أن أفضل أسلوب هو تعيين هولاء الهاكرز بمرتبات عالية مهمتهم محاولة اختراق أنظمتها المختلفة والعثور على أماكن الضعف فيها، واقتراح سبل للوقاية اللازمة من الأضرار التي يتسبب فيها قراصنة الحاسوب. في هذه الحالة بدأت صورة الهاكر في كسب الكثير من الإيجابيات. إلا أن المسمى الأساسي واحد. وقد أصبحت كلمة هاكر تعرف مبرمجا ذا قدرات خاصة يستخدمها في الصواب كما يمكن استخدامها في الخطأ.
قراصنة إيجابيون
ومع ذلك فالمعروف اليوم ايضا أن الدور الذي يقوم به القراصنة في البناء في شبكة الإنترنت، وفي ممارسة أعمال إيجابية ربما تكون اكثر بكثير من الدور السلبي، وعلى سبيل المثال أسهم قراصنة الحاسوب أو الهاكرز في تصميم بنية وتقنيات الإنترنت، ومازالوا يقومون بالكثير من الجهود لتحسين بنية الشبكات وتطوير التقنيات المستخدمة في التشبيك. كما أنهم قاموا ويقومون بالكشف عن عيوب أمن المعلومات، وعرض الحلول لها وبذلك الحماية من المستخدم السلبي، القيام بإنجاز مشاريع مفتوحة المصدر، وعرضها مجاناً على الإنترنت مثل نظام تشغيل لينكس، أو تقديم استشارات أمنية لكبرى الشركات مثل مايكروسوفت، وشركات بناء الطائرات، والمؤسسات الصناعية الكبرى، وكذلك أرشيفات المعلومات الحكومية، لمنع سلب تصميمات الأجهزة والآلات من قبل منافسين على المستوى الوطني أو المستوى الدولي، ومنع دخول العابثين إلى شبكاتهم التي تحتوي على مسائل سرية أو حساسة ومنع التخريب.
وقد أشرت في موضوع سابق في هذه الزاوية قبل عدة سنوات إلى أن ما نعرفه باسم «فيروس» هو برنامج من تصميم أحد الهاكرز يمكنه الدخول على ملفات مستخدمي الكمبيوتر واختراق الحسابات الخاصة بهم، ولذلك فإن برامج مقاومة السلب الإلكتروني هي أيضا تعتمد على هؤلاء المبرمجين لأنهم يعرفون أسرار برامج «الفيروسات» وبالتالي يمكنهم برمجة برامج جديدة تفك شفرات تلك الفيروسات.
وهناك إقبال شديد من قبل الشركات المختصة في أمن المعلومات والأمن القومي والمؤسسات النووية والبنوك وغيرها اليوم على توظيف مختصين على درجة عالية من المهارة، خصوصا بعد أن طور الكثير من الهاكرز السلبيين من طريقة عملهم بحيث يتمكنون من اختراق العديد من البرامج على شبكة الإنترنت، ولعل نموذج كيفين ميتنيك هو أحد أشهر نماذج هؤلاء الهاكرز الخطرين، والذي أدت أعماله في اختراق نظم محاسبية وإلكترونية لعدد من الشركات والمؤسسات الضخمة إلى اعتباره أحد الأشخاص الأكثر خطرا في العالم.
وهو أحد أشهر مخترقي الأنظمة الذين تم سجنهم. تم اعتقاله من قبل مكتب التحقيقات الفيدرالي الأمريكي FBI في 15 فبراير 1995. تم تجريمه بالتلاعب الإلكتروني واختراق أنظمة الحاسوب لدى كل من فوجيتسو وموتورولا ونوكيا وصن مايكروسيستمز. قضى ميتنيك خمس سنوات في السجن (اربع منها قبل المحاكمة)، 8 أشهر منها في الحبس الانفرادي، وتم إطلاق سراحه في 21 يناير 2000. وخلال فترة مراقبته بعد إطلاق سراحه، والتي انتهت في 21 يناير 2004، منع من استخدام أي شكل من تكنولوجيا الاتصالات، باستثناء الهاتف الأرضي، مع بعض الاستثناءات. يرى المحققون الفيدراليون في أمريكا أن كيفين الملقب بالكوندور – نسر أمريكي - خطر لدرجة أنه قادر باتصال هاتفي واحد على وضع البلاد في حالة استنفار قصوى، بفضل قدرته على اقتحام أخطر المواقع، عبر شبكات الكمبيوتر والهاتف!
ما وجه الخطورة هنا؟ لو أن هذا الشخص لم يكن امريكيا، بل لنقل إنه من بلد صغير آخر في العالم واستطاع مثلا ان يخترق النظام الخاص بالعمليات النووية في روسيا أو امريكا، فما الذي يعنيه ذلك؟ المعنى ببساطة أن الفضاء الإلكتروني خلق عالما جديدا، قد يصبح فيه جزء من الولايات المتحدة موجودا في دولة صغيرة أخرى، وقد يجعل هذه الدولة الصغيرة التي لا تمتلك سلاحا نوويا، بين ليلة وضحاها تمتلك قرار إطلاق قنبلة نووية في الولايات المتحدة.
ولهذا فمستقبل القرصنة ومدى تطور إمكانات مقاومتها أو ضبطها سيقرر العديد من التغييرات التي يحتمل أن يشهدها مستقبل العالم في القريب العاجل أو حتى في المستقبل المنظور.
 إبراهيم فرغلي



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق