الجمعة، 13 فبراير 2015

• شرح قصيدة من كرم العرب

وقال المقنع الكندي:
يعاتبني في الدين قومي  وإنمـا    ديوني في أشياء تكسبهم حمداً 
أسد به ما  قد  أخلوا  وضـيعـوا   ثغور حقوق ما أطاقوا لها سـداً 
وفي جفنة ما يغلق الباب دونها   مكللة   لحمـاً   مـدفـقـة   ثــردا 
وفي فرس  نهد  عتيق  جعلـتـه   حجاباً  لبيتي ثم أخدمته عـبـداً 

كأن قومه ينعون عليه سرفه في الإنفاق، وتخرقه في الإفضال، وتجاوزه ما تساعده به حاله وتتسع له ذات يده إلى الاستقراض، وبذل الوجه في الأديان، فقال: كثرت لأئتمتهم فيما يركبني من الديون، وإنما هي مصروفة في وجوه مؤنها علي، وجمالها لهم، وقضاؤها في أنفسهم يلزمني، ومحامدها موفرة عليهم. ثم أخذ يعد فقال: من تلك الوجوه أن ما ينوب من الحقوق فيخلون بها ويضيعونها عجزاً عن الوفاء بواجبها، أنا أسد ثغورها، وأقيم فروصها.
ومنها: أن لي دار ضيافة قدورها مشبعة موفورة، وجفانها معددة منصوبة، لا يمنع منها طالبها ولا يحجب عنها رائدها، فلحمانها كلأكاليل على رءوسها، وثرئدها قد نمق تدقيقها.
ومنها: أن بفنائي فرساً مربوطاً قد أعد للمهمات، على عادة لأمثالي من الأكابر والرؤساء. ولكرمه وما يتوفر عليه من إكرامي إياه قد صار كالحجاب لباب بيتي، وقد شغلت بخدمته عبداً يتفقده بمرأى مني، لا أهمله ولا أغفل عنه.
قوله: (مدفقة) أي مملوءة. والأحسن أن يروى معه: (ثرداً) بضم الثاء. ويروى (مدفقة ثردا) بفتح الثاء. والمراد مثردة ثرداً دقيقاً. والنهد: الجسم المشرف من الخيل.
وإن الـذي بـينـي وبـين  بني  أبــي      وبين  بني  عمي  لمختـلـف جـداً 
فإن يأكلوا لحمي  وفرت لحومـهـم      وإن هدموا مجدي بنيت لهم مجـدا 
وإن ضيعوا غيبي حفظت غيوبهـم    وإن هم هووا غي هويت لهم  رشداً 
وإن زجروا طيري بنحس تمر  بـي    زجرت لهم  طيراً  تمر  بهم  سعـدا 
ذكر بعد ما عدد معاذيره فيما أنكروه عليه، أن إخوته وأبناء عمه يحسدونه ويأتمرون العداوة والغواية له، وهو يصابرهم ويجاملهم، ويتغابى معهم، فقال: إن ما بيني وبينهم في طرفي نقيض، وعلى لون من الخلاف عجيب؛ فإنهم إن اغتابوني وتطعموا لحمي أمسكت عنهم، وتركت أعراضهم موفورة، لم يتخونها مني إذالة ولا ثلب، وأعراقهم محفوظة لم يتحيفها تحامل ولا غض. وإن سعوا في نقض ما أبرمته من مسعاة كريمة، وهدم ما أسسته من خطة مجد علية، جازيتهم باببتناء شرف لهم مستحدث، وإعلاء شأن لهم مستأنف. وإن أهملوا غيبي فلم براعوه بحسن الدفاع عنه، وإسباغ ثوب المحاماة عليه حفظت أنا غيبهم، وأرصدت الغوائل لمن اغتالهم. وإن أحبوا لي الغواية، والتسكع في الضلالة والبطالة، اخترت لهم المراشد، وهويت في مباغهم المناجح. وإن تمنوا لي المنحسة، وزجروا من بوارح الطير وسوانحها في المشأمة، جعلت عيافتي لهم فيما يمر بي منها المسعدة والطيرة الحميدة. وقوله: (سعدا) صفة لطيراً.
ولا أحمل الحقد  القـديم  عـلـيهـم    وليس رئيس القوم من يحمل الحقدا
لهم جل مالي إن تتابع لي غـنـى   وإن  قل  مالي  لم  أكلفـهـم   رفـدا 
وإني لعبد الضـيف  مـادام  نـازلا   وما  شيمة  لي غيرها  تشبه العبـدا 
أثبت لنفسه الرياسة عليهم في هذا البيت. والمعنى أنه متى استعطفوه عطف عليهم، وإن استقالوه أقالهم وأسرع الفيئة لهم، غير حامل الضغن واللجاج معهم، ولا معتقداً انتهاز الفرص فيهم، لما اكتمن من عوادي الحقد عليهم. وقوله وليس رئيس القوم من يحمل الحقدا (يجري مجرى الالتفات، كأنه أقبل على مخاطب فقال: إني لا أتجمل بترك مؤاخذتهم، وأطراح الحقد في مساوقتهم، فإن الرئيس يحب ذلك عليه في شروط الرياسة. وقوله:) لهم جل مالي( يريد إن تواصل الغنى لي أشركتهم في معظمه، من غير امتنان ولا تكدير، وإن تحيف مالي حادث يلم، أو عارض يحدث، لم أنتظر من جهتهم معونة، ولا كلفتهم فيما يخف أو يثقل مؤونة .
وقوله (وإني لعبد الضيف) أراد أن يبين ما عنده للغريب الطارق، والضيف النازل، بعد أن شرح حاله مع مواليه، وخصاله في مرافقة ذويه، فقال: وابلغ في خدمة الضيوف مبالغ العبيد فيها. ثم أكد ما حكاه بقوله (وما شيمة لي غيرها تشبه العبدا)، فانتصب (غير) على أنه مستثنى مقدم؛ وذاك لأنه لما حال بين الموصوف والصفة، وهما شيمة وتشبه، وتقدم على الوصف صار كأنه تقدم على الموصوف، لأن الصفة والموصوف بمزنلة شيء واحد. وقوله (تشبه العبدا) يريد: تشبه شيم العبد، فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه.
فليتأمل الناظر في هذا الباب وفي مثل هذه الأبيات، وتصرف قائلها فيها بلا اعتساف لا تكلف، وسلاسة ألفاظها، وصحة معانيها، فهو عفو الطبع، وصفو القرض.



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق