الثلاثاء، 18 أكتوبر 2016

• أمل دنقل الشاعر القومي

أمل دنقل (1940 - 1983) واحد من أهم شعراء الستينيات في مصر، فالمكانة التي يحتلها في تاريخ الشعر العربي المعاصر، والتي ترتبط بالإنجاز الذي حققه على المستوى الإبداعي، تجعل منه واحدا من أبرز الشعراء العرب المعاصرين. ولا تحتسب المكانة، في هذا السياق، بالكم الشعري الذي كتبه الشاعر، أو الدواوين التي أصدرها.

أعمال أمل دنقل قليلة مثل عمره القصير، ولكنها أعمال متميزة بما تنطوي عليه من إنجاز ودلالة، ابتداء من ديوان "البكاء بين يدي زرقاء اليمامة" الذي لفت إليه أنظار الأمة العربية عام 1969، وكان بمثابة احتجاج وإدانة للعالم الذي أدى إلى هزيمة يونيو 1967، ومرورا بديوان "تعليق على ما حدث" عام 1971 الذي كان استمرارا لاتجاه الديوان الأول، وكذلك ديوان "العهد الآتي" الذي صدر عام 1975 والذي وصلت فيه تقنية الشاعر إلى ذروة اكتمالها، وأخيرا ديوان "أوراق الغرفة (8)" عام 1983، وقد أصدره أصدقاء الشاعر بعد وفاته بشهور، شأنه في ذلك شأن "أقوال جديدة عن حرب البسوس" الذي صدر عن دار المستقبل العربي في القاهرة عام 1984، قبيل نشر الأعمال الكاملة.

رموز من التراث العربي

هذه الأعمال القليلة نسبيا، تنطوي على عالم شديد الخصوصية والأهمية في تاريخ الشعر العربي المعاصر، فهي تقدم لنا شاعرا وصل بالمحتوى القومي للشعر إلى درجة عالية من التقنية الفنية والقيمة الفكرية في وقت واحد، إلى الدرجة التي يمكن أن نقول معها إن شعر أمل دنقل هو المحلي الحداثي الأخير، للرؤية القومية في الشعر العربي المعاصر، هذه الرؤية القومية التي دفعته إلى اختيار رموزه من التراث العربي، وصياغة أقنعته من الشخصيات الرمزية الثرية في هذا التراث، والقادرة على إثارة اللاشعور القومي لجماهير القراء العرب. ومن هنا كان ديوانه الأول "البكاء بين يدي زرقاء اليمامة" علامة مؤثرة، فالأقنعة التي ينطوي عليها الديوان، والأصوات الناطقة في القصائد، ذات ملامح تراثية، وصلت بينها وبين القراء وصلا حميما، وزاد من أهمية هذا الوصل ما تميزت به قصائد هذا الديوان من تقنية فنية عالية، جعلت من الشاعر أمل دنقل واحدا من أهم شعراء العرب الشباب.

لقد احتوى هذا الديوان على قصائد "البكاء بين يدي زرقاء اليمامة" و "حديث خاص مع أبي موسى الأشعري" و "من مذكرات المتنبي في مصر"، وكلها قصائد تلح على إثارة المعطيات التراثية الكامنة في وعي المتلقي ولا وعيه على السواء، أو تستغل المخزون الشعوري للمتلقي كي تدخل به إلى عالم الشاعر، فتؤهله للاتحاد بشخصيات الشاعر ورموزه. وتضمنت هذه القصائد "الأقنعة" الشهيرة التي عرف بها أمل دنقل وأصبحت علامة له. و "الأقنعة" رموز، في هيئة أشخاص تراثية في الأغلب يختفي وراءها الشاعر، فينطق صوتها الذي هو صوته ويجسد من خلالها، وبواسطتها، تجاربه ونظرته إلى العالم، على نحو يتباعد عن الذاتية المباشرة التي كانت سمة للشاعر الرومانسي، ويؤكد موضوعية الإبداع والتلقي على السواء، فالقناع يتيح للشاعر خلق موازيات رمزية تجسد نظرته إلى العالم، ويوصل صوته عبر وسائل مراوغة، ويتيح للشاعر اكتشاف تجربته خلال آخر يشبهه بأكثر من معنى، وفي الوقت نفسه، يتيح القناع للقارئ الاتحاد بشخصيات الشاعر، والاستجابة إلى صوتها الذي هو صوت الشاعر، والتفاعل مع موقفها القديم الذي يسقط نفسه على الموقف المعاصر الذي يعاني منه الشاعر والقارئ على السواء.

هكذا كانت قصيدة "البكاء بين يدي زرقاء اليمامة" واحدة من القصائد اللافتة بعد هزيمة العام السابع والستين، فقد جذبت الأنظار إليها وإلى شاعرها على السواء. وأعادت إلى الأذهان مأساة "زرقاء اليمامة" التي حذرت قومها من الخطر القادم فلم يصدقوها، كأنها صوت الإبداع الذي كان يحذر من الخطر القادم فلم يصدقه أحد. وإذ أكد "البكاء بين يدي زرقاء اليمامة" التشابه بين الماضي والحاضر، فإنه أكد الهوية القومية لشعر أمل دنقل من حيث وصل هذه الرموز بجذورها في التراث العربي الذي يصل بين المبدع والقارئ، ومن حيث ربط هذه الهوية برؤية لا ترى إمكانا للمستقبل إلا بنهضة قومية تستعيد أعظم ما في الماضي من خبرات وتتجاوز ما في الحاضر من ثغرات.

صوت المواطن البسيط

ولا شك أن جانبا لافتا من التأثير الذي تركته هذه القصيدة يرجع إلى طبيعة الصوت الذي ينطقه القناع بها، فهو صوت المواطن البسيط الذي يقف أعزل بين السيف والجدار، يصمت كي ينال فضلة الأمان، كأنه عبدمن عبيد عبس يظل يحرس القطعان، يصل الليل بالنهار في خدمة السادة، طعامه الكسرة والماء وبعض التمرات اليابسة. هذا العبدالذي ينطق في القصيدة كان يجسد صوت الشاعر من ناحية، وصوت المواطن العربي المسكين الذي مزقته الهزيمة من ناحية ثانية. ومن هنا، اتحدت جماهير القراء بصوت هذا العبد العبسي البائس الذي يبكي في حضرة زرقاء اليمامة، هذا العبد- عندما وقعت الواقعة، وتخاذل الكماة والرماة - يدعى إلى الميدان وهو الذي لا حول له ولا شأن، فماذا يفعل سوى أن يبكي بين يدي زرقاء اليمامة، عاجزا، عاريا، مهانا، صارخا، كأنه صدى يجسد ما في داخل كل قارئ عربي للقصيدة في الوقت الذي كتبت فيه. وإذا كان صوت هذا العبدالعبسي (الصورة الموازية للمواطن العربي البسيط) شاهدا على الهزيمة فإن بكاءه في حضرة زرقاء اليمامة، العرافة المقدسة، شاهد على ما يمكن أن يفعله الشعر، فالشعر - الإبداع - صورة أخرى من هذه العرافة، أو قناع لها، قادر على أن يرى ما لا يراه الآخرون، وأن يستشرف أفق الكارثة أو أفق الوعد بالمستقبل. وبكاء هذا العبدفي حضرة زرقاء اليمامة مثل شهادته علامة على أسباب الهزيمة التي ترتبت على غياب الديمقراطية عن قبائل "عبس" العربية، من العصر الجاهلي إلى العام السابع والستين، حيث كتبت هذه القصيدة.

وإذا كان تأثير القصيدة "البكاء بين يدي زرقاء اليمامة" يرجع إلى طبيعة قناعها، والاتحاد الشعوري واللاشعوري الذي يقيمه القناع بين صوته وصداه عند القارئ، فإن الجوانب الأخرى من نجاح القصيدة ترجع إلى بقية خصائصها الأسلوبية، حيث تتجاور الصياغة العربية المحكمة مع الإيقاعات الإنشادية، وتتآلف لغة الصورة التي تخاطب العين مع النبرة التي تخاطب السمع وتتوازى التضمينات الشعرية القديمة مع الإشارات السياسية المعاصرة، ويتقابل الموقف السياسي الذي يسعى إلى تأكيد حق المواطن العربي في صياغة مصيره مع صوت الشاعر الذي يؤكد دور الشاعر في تحرير الوطن والمواطن.

رحلة الأقنعة

ولقد كانت هذه القصيدة، في الوقت نفسه، بداية رحلة الأقنعة التي انطلقت بصوت أبي موسى الأشعري، في قناعه الذي يؤكد دلالة الموقف الذي يدين جميع الأطراف، فيخلع الجميع كي يسترد المؤمنون الرأي والبيعة، وصوت المتنبي الموجع في قناعه الذي ينطق لغة السخرية، بعد العام السابع والستين، على هذا النحو:


ساءلني كافور عن حزني
فقلت إنها تعيش الآن في بيزنطة
شريدة.. كالقطة
تصيح كافوراه.. كافوراه
فصاح في غلامه أن يشتري جارية رومية
تجلد كي تصيح واروماه.. واروماه
لكي تكون العين بالعين
والسن بالسن

واستمرت الأقنعة في قصائد أمل دنقل ودواوينه اللاحقة تؤكد البعد القومي لشعره، وتؤكد صوت المواطن العربي البسيط الذي يجسد القناع التراثي، في شعر أمل، همومه وتطلعاته وأحلامه. وتجاوب الصوت التراثي في "فقرات من كتاب الموتى" مع القناع الذي انطوت عليه قصيدة "الحداد يليق بقطر الندى" في الديوان الثاني "تعليق على ما حدث". وتجاوبت أقنعة الديوان الثاني مع "أوراق أبي نواس" و "رسوم في بهو عربي" في الديوان الثالث "العهد الآتي"، حيث الإفادة من التراث العربي الأدبي تتجاور والإفادة من التراث الديني الإنساني في تأكيد معنى "العهد الآتي" الذي يحل محل "العهد القديم". وتتجاوب أقنعة الديوان الثالث مع أقنعة الديوان الرابع الذي غدا كله أقنعة مستعارة من سيرة "المهلهل" أخي "كليب" المقتول. ومع الأسف لم يتح للشاعر الوقت لكتابة هذا الديوان "الأقنعة" فقد دهمه المرض اللعين بعد أن فرغ من القصيدتين الأوليين، أو القناعين الأولين، فنشر القصيدة الأولى بعنوان "لا تصالح" والثانية بعنوان "أقوال اليمامة". وقد احتلت القصيدة الأولى مكانة تعلو على المكانة التي احتلتها قصيدة "البكاء بين يدي زرقاء اليمامة" وذلك لارتباطها بتجسيد موقف عربي قومي من الصلح مع العدو الإسرائيلي.

وظلت القصيدة، منذ أن نشرت، معلقة من المعلقات القومية التي يتناشدها الباحثون عن الكرامة الوطنية. وتقوم القصيدة على عشر وصايا كأنها معارضة موازية للوصايا العشر التي خلفتها الديانة الموسوية، وهي وصايا تؤكد ضرورة الحفاظ على الحق العربي، وعدم الصلح مع العدو الغادر، وتأكيد معنى الثأر الذي هو ثأر جيل فجيل:


وغدا..
سوف يولد من يلبس الدرع كاملة
يوقد النار شاملة
يطلب الثأر
يستولد، الحق من أضلع
المستحيل

وكان أمل يريد أن يصوغ أقنعة لبقية الشخصيات الأساسية في حرب البسوس التي استمرت أربعين سنة، جساس وجليلة والمهلهل وغيرهم، وذلك ليصوغ من هذه الحرب موازيات رمزية للواقع العربي المعاصر، ويصوغ من شخصياتها موازيات مماثلة لاتجاهات الحاضر. ولم يتحقق من حلم أمل سوى قصيدة "لا تصالح" التي تستحضر الملك كليب في ساعاته الأخيرة، وقصيدة اليمامة التي كانت ترفض السلام مع قاتل أبيها الذي يرمز للمجد العربي القتيل، أو الأرض العربية السليبة التي تريد أن تعود إلى الحياة مرة أخرى. ولكن إذا كان مشروع هذا الديوان لم يكتمل فإن ما تحقق منه يكفي لإبراز حلم أمل دنقل القومي، وهو حلم يتجسد في وطن عربي ترفرف عليه أعلام الحرية والعدل والتقدم، ويستعيد فيه المستقبل عظمة الماضي وأمجاده.


كعنقاء قد أحرقت ريشها
لتظل الحقيقة أبهى
وترجع حلتها في سنا الشمس أزهى
وتفرد أجنحة الغد
فوق مدائن تنهض من ذكريات الخراب

هذه المدائن التي تنهض من ذكريات الخراب هي المدائن العربية التي ظل أمل دنقل يغني لها، ابتداء من القاهرة العجوز إلى كل العواصم العربية. وفي سبيل مستقبل هذه المدائن، ظل شعر أمل يلازم خاصية لم تفارقه قط، هي خاصية الرفض بمعانيه المتعددة، الرفض السياسي لتراجع أنظمة الحكم والهزائم المصاحبة لديكتاتورية حاكميها. والرفض الاجتماعي لصور النفاق التي تمزق الحياة وتعوق التقدم.والرفض الفكري لكل ما يشد العقل إلى قيود التخلف، أو التقاليد الجامدة. والرفض الوجودي لكل ما يحرم الإنسان من أن يمارس حضوره الفاعل في الوجود.

روح رافضة

ويلفت الانتباه، في هذا السياق، أن القصيدة الأولى التي لفتت الأنظار إلى شعر أمل دنقل، قبل أن ينشر ديوانه الأول بسنوات، كانت بعنوان "كلمات سبارتكوس الأخيرة"، وهي قصيدة تقوم على قناع سبارتكوس محرر العبيد في الإمبراطورية الرومانية. والقناع منسوج من بعض الأفكار التي أكدها طه حسين عندما كتب دراسته الشهيرة بعنوان "ثورتان"، مقارنا بين ثورة العبيد في روما وثورة الزنج في البصرة. ومنسوج من ملامح سبارتكوس التي رسمتها الرواية العالمية الشهيرة التي كتبها الروائي الأمريكي هوارد فاست والتي عالجتها السينما العالمية في فيلم شهير بعنوان "سبارتكوس". وقد كتب أمل قصيدته في أبريل 1962، في أعقاب استفتاء شعبي شهير في مصر، بما يؤكد معنى الرفض الحاسم الذي يعلق من يقول "لا" على مشانق القيصر، في مقابل الذين ينالون الأمان ممن يقولون "نعم" لكنهم - في النهاية - معلقون في مشانق الخنوع، وذلك بالمعنى الذي ينطقه هذا المقطع الذي يتوجه فيه سبارتكوس بالخطاب إلى الخائفين:


يا إخوتي الذين يعبرون في الميدان مطرقين
منحدرين في نهاية المساء
في شارع الإسكندر الأكبر
لا تخجلوا ولترفعوا عيونكم إليّ ل
أنكم معلقون جانبي على مشانق القيصر

وإذ تنطلق بداية القصيدة من المأثورات الرومانية الخاصة بعوالم الأرباب الوثنية، وتتخذ منها مهادا يؤسس دلالة رفض الاستبداد في الحكم. وإذ تؤكد البداية الذين لابد أن يقولوا "لا" في وجه من يقولون "نعم"، فإنها تؤكد الصوت المتحرر الذي يدعو إلى تحرير الأفراد من سطوة "القيصر" الذي يسلب شعبه حريته، فيتحول الشعب إلى عبيد، أرقاء، يحتاج إلى من يقوده إلى الثورة، ومن ينطق له باسم الثورة من خلال قناع يذكر الحاضر بمعناها الأبدي الدائم. وحين يؤكد سبارتكوس معنى الثورة على كل قيصر جديد، في نفوس المظلومين، فإنه يؤكد الدور الذي يقوم به الشعر والشاعر في رفض كل ما يغتال أحلام المظلومين.

هذا الروح الرافض يتلهب في شعر أمل دنقل، دائما، ولا يكف تلهبه عن التوقد، فهو شعر التمرد الذي يأبى الخنوع. بقدر ما استمد هذا الروح من نسغ التمرد في الحاضر، ظل متوهجا بالرفض إلى آخر لحظة من حياة الشاعر.

الاقتراب من وجدان الجماهير

ولا شك أن هذا البعد السياسي الذي تميز به شعر أمل دنقل هو الذي أكد صلة الشاعر بالجمهور، وجعله حريصا على تأكيد الطابع الإنشادي للقصيدة، كأنه لا يكتب القصيدة إلا ليلقيها في محفل جمعي، وكأن جانبا من بناء القصيدة نفسها لا يفهم إلا في ضوء تلقيها الجماعي، ومن هنا، كانت قصيدة أمل تتميز برموزها القريبة من وجدان الجماهير، وصورها الشعرية البسيطة ومقاطعها القصيرة الحادة، والإيقاعية العالية، وغير ذلك من الخصائص البلاغية التي تلازم كل شعر يتجه إلى الجماهير العربية ليدفعها إلى تغيير عالمها.

وفي هذا المجال، يتباعد شعر أمل دنقل عن الغرابة والتعقيد والاستغراق في العوالم الذاتية أو اللغة اللامنطقية التي تنفر من الوضوح، إلى آخر ما يتميز به بعض الشعر الذي يغالي في نزعته الحداثية التي تبعده عن الجماهير. إن شعر أمل دنقل على النقيض من نزعات الحداثة المغتربة، ينطوي على المعنى الواضح، والبناء المنطقي، والخطابية التي لا تفارق نسيج صياغته دون أن تقلل من شاعريته المتميزة. وقصيدة "لا تصالح" خير مثال على هذا النوع من الشعر، فهي قصيدة تستبدل بالصورة المركبة المعقدة الملتبسة الصورة البسيطة الواضحة، وبالكلمات المتنافرة الكلمات المتسقة منطقيا، وبلغة الاستعارة لغة التشبيه، وبالكتابة التي تدنو من النثر المقاطع الإيقاعية، ذات النغمة البارزة، والقافية التي لا تفلت الوقع الموسيقي، بل تكثفه، وتضبط تدافعه. وأخيرا، تستبدل القصيدة بالمثيرات الفردية المثيرات الجمعية، على نحو يحمل المتلقي إلى حالة شعورية تتناسب وطبيعة الهدف القومي من شعر أمل دنقل الذي كان أكثر أبناء جيله استجابة إلى الجماهير العربية وأكثرهم قدرة على تحريكها. ولذلك احتضنته هذه الجماهير ورعته منذ أن أدركت مرضه، وساندته، وظلت حانية عليه تقديرا منها لدوره في حياتها.

حرص على التجديد

ولكن هذه الصلة بالجماهير لم تنس قصيدة أمل دنقل ما عليها من حق للشعر. إن الصنعة تتجاور مع العفوية، والأصالة تقترن بالمعاصرة، والحرص على النغمة الإيقاعية القديمة يتناغم مع الحرص على التجديد، وعين الشاعر التي لا تمل من النظر إلى عالم المدينة تتضافر مع أذنه التي لا تمل من الاستماع إلى النغمات والأصوات في هذا العالم. ولذلك فإننا نستطيع أن نلمح في شعر أمل دنقل تجاورا لافتا بين الحداثة والتقاليد، خصوصية العالم الأدبي وجمعية العالم الجماهيري، الاستغراق في التقنية والعفوية التي تخفي هذه التقنية.

ومن المؤكد أن شعر أمل دنقل لا يدخل في باب المناسبات بالمعنى الذي تنتهي به القصيدة بانتهاء المناسبة. إن غوص هذا الشعر في تجاربه. وتجسيده اللحظات الجوهرية في الواقع، وصياغته الأقنعة النموذجية التي تتحول إلى موازيات رمزية، وخلقه شخصيات إبداعية لا يمكن نسيانها، على نحو ما نجد في "يوميات كهل صغير السن" و "سفر ألف دال"، وقدرة هذا الشعر على صياغة جداريات بالغة الحيوية لمشاهد المدينة وعالمها، وأناسها الهامشيين، ولغة هذا الشعر المنسوجة باقتدار يجتذب العين والأذن ويمتعهما في آن واحد، والإحكام البنائي الذي يخلف لذة عقلية في ذهن المتلقي، كلها خصائص تتجاوز المناسبة، أو المناسبات، وتضع أمل دنقل في مصاف الشعراء الكبار الذين يتجاوز شعرهم اللحظة التاريخية التي أوجدته لأنه عثر على العناصر الباقية في هذه اللحظة.

ونضيف إلى الخصائص السابقة ما يتميز به شعر أمل دنقل من تراكيب حدية، وعوالم تجمع بين المتقابلات في صياغات لافتة. وذلك هو السبب في أن المفارقة والتضاد هما الخاصيتان البلاغيتان الأثيرتان في هذا الشعر. التضاد الذي يضع الأشياء في علاقات متدابرة، والمفارقة التي تستقطر السخرية من التقابلات المفاجئة. إن قارئ أمل دنقل لن ينسى المفارقة التي تنبثق حين تتجاور الأشياء بغتة، ويبرز التقابل بين العناصر على نحو ساخر، موجع نقرأ معه:


لا تسألي النيل أن يعطي وأن يلدا
لا تسألي... أبدا
إني لأفتح عيني حين أفتحها
على كثير ولكن لا أرى أحدا

ولقد كان شعر أمل، بهذه اللغة التي تؤكد السخرية من خلال المفارقة، يجسد التضاد الذي تنبني عليه علاقات الواقع المختل، الواقع الذي دفع الشاعر إلى أن ينطق بلغة أقنعته المستعارة قائلا: "مملكتي ليست من هذا العالم. لو كانت مملكتي من هذا العالم لكان خدامي يجاهدون لكي لا أسلم إلى اليهود".
جابر عصفور






ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق