الاثنين، 9 أكتوبر 2017

• سقراط... الشهيد الأول في الفلسفة

كان سقراط الفيلسوف اليوناني والمصدر الرئيسي للفكر الغربي. ولا يعرف إلا القليل عن حياته من خلال ما سجَّله طلابه لنا. بما في ذلك أفلاطون.
ولد سقراط حوالي 470 ق.م، في أثينا في اليونان. لا نعرف عن حياته إلا من خلال كتابات طلابه بمن فيهم أفلاطون وزينوفون. وضع ”منهج سقراط“ الأساس للنظم الغربيَّة في المنطق والفلسفة. وفي ظلِّ تحول المناخ السياسي في اليونان، حُكم على سقراط بالإعدام بشربِ سم الشوكران في عام 399 ق.م. وقد قبلَ هذا الحُكم بدلاً من الفرار إلى المنفى.

السنوات المبكرة:
كما ذكرنا سابقاً، فقد ولد في حوالي 470 ق.م. في أثينا، وحياة سقراط تؤرَّخ من خلال مصادر قليلة فقط، نقصد بها تحديداً ”حوارات أفلاطون وزينوفون – ومسرحيات أرسطوفانيس“، ولأن هذه الكتابات كان لها أغراض وأهداف أخرى غير الإخبار عن حياته؛ فمن المُرجح أن لا تقدِّم لنا صورة كاملة ودقيقة تماماً. ومع ذلك، بشكل عام، إنها توفر صورة فريدة وحيَّة لفلسفةِ سقراط وشخصيته.
كان سقراط نجل سوفرونيسكوس، الذي كان يعملُ بنّاءاً ونحِّاتاً في أثينا. وأمه هيَ فيناريت والتي كانت تعمل قابلة -تولِّد النساء-، ولأنه لم يكن من عائلة نبيلة، فمن المرجَّح أنه تلقى تعليماً بسيطاً في اليونان، وتعلَّم حرفة والده في سن مبكرة، ويُعتقد أنه عمل كبنّاء لعدة سنوات قبل أن يكرِّس حياته للفلسفة. ويختلفُ المعاصرون في آرائهم عن كيفية دعم سقراط لنفسه كفيلسوف، فقد قال كلٌ من زينوفون وأرسطوفانيس أنَّ سقراط كان يأخذ دعماً من الدولة للتعليم، في حين أن أفلاطون يكتب أن سقراط رفض صراحةً قبول الدفع، واستشهد بفقره كدليل.
تزوَّج سقراط من زانثيبي، وهي امرأة صغيرة السن، وأنجبت له ثلاثة أبناء هم: لامبروكليس وسوفرونيسكوس ومينيكسينوس، ولا يعرف عنها إلا القليل، وقد وصفها زينوفون بأنها ”غير مرغوب فيها“، وكتب أنها لم تكن سعيدة بمهنة سقراط الثانية واشتكت من أنه لا يدعم العائلة كفيلسوف. وبحسب كلماته الخاصة، لم يفعل شيئاً يُذكر لتربية أبنائه، بينما عبر عن اهتمام أكبر في التطوير الثقاقي لابناء أثينا الناشئين.
يوجب القانون الأثيني على جميع الذكور القادرين على العمل أن يكونوا جنوداً مواطنين، من سن 18 إلى 60، وفقاً لأفلاطون، فقد خدم سقراط في قسم المشاة المدرعة – بالدرع الطويل وقناع الوجه. وقد شارك في ثلاث حملات عسكرية خلال الحرب البيلوبونيسية: في ديليوم وأمفيبوليس وبتويدا، حيث أنقذ حياة السبياديس، وهو جنرال أثيني مشهور.
لقد كان سقراط معروفاً بشجاعته وجسارته في المعركة، وهيَ سمة بقيت معه طوال حياته. وبعد محاكمته، اعتبر أنه لو تقهقر أمامهم سيكون كجندي يتقهقر في ساحة المعركة ويخاف من الموت.
توفِّر ندوة أفلاطون أفضل تفاصيل المظهر الجسدي لسقراط. لم يكن مظهره مظهر الرجل الأثيني المثالي، فقد كان قصيراً وممتلئاً، أفطس الأنف، جاحظ العينين فيبدو دائماً وكأنه يحدِّق. ومع ذلك، أشار أفلاطون إلى أنه في نظر طلابه كان سقراط يمتلك نوعاً آخراً من الجاذبية، لا تقوم على المثالية الجسدية ولكن على مناقشاته الرائعة وفكره النافذ، وقد أكد سقراط دائماً على عظم أهمية العقل بالمقارنة مع عدم الأهمية النسبية للجسد. هذه العقيدة هي مستوحاة فلسفة أفلاطون لتقسيم الواقع إلى عالمين منفصلين: عالم الحواس وعالم الأفكار، معلناً أن هذا الأخير هو الوحيد المهم.
سقراط الفيلسوف
كان سقراط يعتقد بأن الفلسفة يجب أن تحقق نتائج عملية عظيمة من أجل خير المجتمع، وقد حاول إنشاء نظام أخلاقي يقوم على العقل البشري بدلاً من المذهب اللاهوتي، وأشار إلى أن الخيار البشري كان مدفوعاً بالرغبة في السعادة، والحكمة في نهاية المطاف تأتي من معرفة الذات، فكلما عرف الشخص ذاته، زادت قدرته على التفكير وتوفير الأسباب وصنع الخيارات التي ستجلب السعادة الحقيقية.
ويعتقد سقراط أن هذا يترجم في السياسية بأفضل شكل من أشكال الحكومات غير المستبدة ولا الديمقراطية. ولكن حكومة تعمل بأفضل طاقاتها عندما يحكمها أفراد لديهم أعظم القدرات والمعارف والفضائل، والذين يمتلكون فهماً كاملاً لأنفسهم.
بالنسبة لسقراط، كانت أثينا فصلاً دراسياً وذهب في التساؤل عن النخبة والعامة على حد سواء؛ سعياً للوصول إلى الحقائق السياسية والأخلاقية. لم يحاضر سقراط عن ما يعرفه، في الواقِع، هو زعم بأنه جاهل لأنه ليس لديه أفكار، ومن حكمته أنه اعترف بجهله. وقد طرح أسئلة على زملائه الأثينيين بطريقة جدلية (الطريقة السقراطية) التي أجبرت الجمهور على التفكير من خلال المشكلة إلى نتيجة منطقية، وفي بعض الأحيان بدا الجواب واضحاً جداً، مما جعل خصومه يبدون حمقى. لهذا، فقط كان سقراط مُحترماً ومعجباً من قبل البعض، ومشوهاً ومكروهاً من قبل آخرين.
خلال حياة سقراط، كانت أثينا تمر بمرحلة تحوُّل دراماتيكية؛ من الهيمنة في العالم الكلاسيكي إلى هبوطها بعد هزيمة مهينة ومذلَّة من قبل سبارتا في الحرب البيلوبونيسية، دخل الأثينيون بمرحلة من عدم الاستقرار والشك في هويتهم ومكانتهم في العالم. ونتيجةً لذلك، فقد تعلقوا بالماضي المجيد وخيالات الثروة وتصلب في المفاهيم عن الجمال الجسدي، أما سقراط فقد هاجم هذه القيم مع تركيزه وإصراره على أن الأهمية الأكبر للعقل، وبينما احترم بعض الاثينيين تحدي سقراط للحكمة اليونانية التقليدية وسخريته منها، ولكن البعض الآخر نموا كرهاً له وشعروا أنه تهديدٌ لطريقتهم في الحياة ومبشِّرٌ بمستقبلٍ غير واضح.
الإعدام:
لم تتأثر هيئة المحلفين بدفاع سقراط وقد أدانته بأغلبية 280 صوتاً مقابل 221 صوتاً، وربما لهجة التحدي في دفاعه عن نفسه قد ساهما في الحكم وجعلت الأمور أسوأ خلال المداولة حول عقابه.
ومن الجدير بالذكر أن القانون الأثيني يسمح للمواطن المُدان أن يقترح عقوبة بديلة عن العقوبة التي يطلبها الادعاء، وبعدها تقرر هيئة المحلفين. وعوضاً عن اقتراح نفيه خارج البلاد، اقترح سقراط أن يتم تكريمه من قبل المدينة لمساهمته في تنويرها وتثقيف أهلها، وأن يدفع له ثمن خدماته. ولكن هيئة المحلفين لم تستمع له وقد استفزها أكثر فحكمت عليه بالإعدام عن طريق شرب سم الشوكران.
قبل إعدام سقراط، عرض أحد الأصدقاء عليه أن يدفع له رشوة للحراس وإنقاذه حتى يتمكن من الفرار خارج البلاد، ولكن الفيلسوف رفض ذلك قائلاً بأنه لا يخشى الموت، ورأى أنه في المنفى لن يكون أحسن حالاً من الموت، وأنه لا يزال مواطناً مخلصاً لأثينا وقوانينها وعلى استعداد للخضوع لقوانينها حتى تلك التي حكمت عليه بالموت ظلماً.
وصف أفلاطون لحظات إعدام سقراط في حواراته، فقال: ”شرب سقراط سم الشوكران من دون تردد، خدر ببطئ وتسلل السم إلى أنحاء جسده حتى وصل لقلبه، وقبل وقت قصير من آخر نفس له، وصف سقراط وفاته بـ’تحرير الروح من الجسد.“
لمحات جانبية مهمة:
1)   بدأ ثلاثة مواطنين أثينيّين بإجراءات قانونية ضد الفيلسوف، وقد كانوا قد اتهموه بامتناعه عن عبادة آلهة المدينة وباختلاق بدع دينيّة وبإفساد شأن أثينا. وتبعاً لخطورة اتهاماتهم، طالبوا بإعدامه. لذا يعد سقراط أول شهيد في الفلسفة.
2)   تصرّف سقراط ببسالة أسطوريّة، وبرغم إتاحة فرصةٍ له للتبرؤ من فلسفته في المحكمة، اختار الوقوف مع ما كان يؤمن أنه صحيح، لا مع ما كان يعلم أنه سيكون سائداً. وبحسب توصيف أفلاطون، كان قد خاطب المحكمة بجرأة: "طالما أنني أتنفس وأملك القوة، لن أتوقف عن ممارسة الفلسفة وإسداء النصح لكم وتوضيح الحقيقة لكل من أصادفه، وبذلك أيها السادة، سواء برأتموني أم لا، أنتم مدركون أنني لن أغير سلوكي، حتى لو مت مئة مرة."
3)   لم يُذعن الفيلسوف خوفاً من مخالفة الرأي السائد، أو أمام الدولة له. لم يتنازل عن أفكاره لمجرد تذمر الآخرين. وعلاوةً على ذلك، كانت ثقته نابعةً من مصدر أشد عمقاً من العناد أو التهور، لقد كانت متجذرة في الفلسفة، إذ منحت الفلسفة سقراط قناعاتٍ مكنته من امتلاك ثقة مبنية على العقل، وليست هستيرية، حين كان يواجه الرفض.
4)   كان سقراط طالباً لدى الفيلسوف أرخلاوس، ثم مارس الفلسفة بعد ذلك من دون تدوين. لم يكن يتقاضى مالاً مقابل دروسه فانزلق نحو الفاقة؛ ولم يكن لديه أدنى تعلق بالممتلكات المادية. كان يرتدي العباءة ذاتها خلال العام، ويكاد يمشي حافياً طوال الوقت (يُقال إنه ولد ليكون نكايةً بصانعي الأحذية). وقد كانت زوجته زنتيب سيئة الطباع (عندما سئل عن سبب زواجه بها، أجاب أن على مروضي الخيزل تجربة أكثر الحيوانات جموحاً).
5)   كان يؤمن بأن الآلهة تؤثر في الناس وأعمالهم، ويعتبر نفسه مرسلاً من الآلهة وأن المعرفة الحقيقية هي ملك للآلهة وليس للإنسان.
6)   سمته الأشد غرابةً كانت عادة التقارب من الأثينيين من جميع الطبقات والأعمار والمهن، ليمطرهم بالأسئلة من دون أدنى شعور بالقلف من أن يعتبروه غريب الأطوار أو مسبباً للغيظ، وذلك كي يفسر لهم سبب اعتناقهم معتقدات سائدة، وما يعتبرونه مغزى حياتهم – إذ عبر أحد هؤلاء الناس العاديين بالقول: "كلما كان أحدنا يواجه سقراط ويتحدث إليه، فإن ما يحدث – بصيغ متعدده – هو أن سقراط برغم انطلاقه من بدايةٍ مختلفة كلياً كل مرة، فإنه يستدرج محدثه بالكلام إلى أن يقع في فخ توصيغ حياته الحالية، وكيف عاش حياته في الماضي. وما إن يقع في الفخم، لا يتركه سقراط بسلام قبل أن يكون قد تمحص فيه من كل زاوية وعلى نحو كلي."
7)   لقد رفض الهروب من السجن، حتى بعدما أكد له صديقه كرايتون أنه قد أعد كل ما هو ضروري لنجاته بسلام ودقة. يعتبر سقراط أن الهرب من السجن خطأ ومخالف للقانون، الذي كان سقراط يحبه ويحترمه. ويعتقد أن على المواطن الصالح أن يحترم كل القوانين التي هي أساس الحضارة والتقدم.
8)   بعد موت الفيلسوف بفترة وجيزة، بدأ المزاج بالتغير. نقل لنا إيسوقراط أن الجمهور الذي كان يشاهد مسرحية بالاميديس ليوريبيديس انفجروا بالبكاء عندما ذُكر اسم سقراط؛ وقال ديودوروس إن متهميه أعدموا على يد سكان أثينا في نهاية الأمر. ويخبرنا بلوتارك أن الأثينيين تدرجوا في كراهية المتّهِمين بحيث رفضوا الاستحمام معهم، وقاطعوهم اجتماعياً إلى أن انتحروا شنقاً بعد أن أصابهم اليأس. ويروي ديوجانيس اللايرتي أن المدينة – بعد فترة وجيزة من وفاة سقراط – حكمت على ميليتوس بالموت، ونفت أنيتوس وليكون، وبنت تمثالاً برونزياً نفيساً لسقراط نحته ليسيبوس العظيم.
لقد كان الفيلسوف قد تنبأ أن أثينا سترى الأمور كما رآها هو في نهاية المطاف، وهذا ما حدث.

من الجدير بالذكر بعد هذا الكلام كله هو أن أفلاطون يجعلنا نشك في صحة الصورة التي رسمها لسقراط، لأنها تجعل سقراط شديد الشبه بأفلاطون ويصعب التفريق بينهما. ولكن معظم الفلاسفة منذ القدم حتى الآن يعتبرون أن الحوارات الأفلاطونية الأولى هي ما يمثل أفكار سقراط التاريخي، وبينما الحوارات المتأخرة بما فيها جمهورية أفلاطون، تمثل أفكار أفلاطون الناضج الذي نأى عن تفكير معلمه، وإن يكن احتفظ بالتصورات الأساسية التي طرحها سقراط عن الإنسان والنفس والمعرفة. ومع هذا، فهنالك من الفلاسفة من يعتبر أن سقراط ليس سوى شخصية أدبية رمزية أبدعتها مخيلة أفلاطون.
عدي الفران




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق